هل اللغة كائن حي؟ يختلف علماء اللغة في كثير من شؤون اللغة واللسانيات ولكنهم يكادون يجمعون على أن اللغة يعتريها ما يعتري الكائن الحي من نمو وازدهار وتكاثر وانحسار وكل ما يمكن أن ينطبق على أي كائن حي آخر، كما أنها بحاجة إلى من يرعاها ويعتني بها ويدبر شؤونها، فإلى أي مدى يمكن للإنسان أن يكون مسؤولاً عن اللغة ويستطيع أن يساهم في بقائها ونموها وازدهارها؟
لقد حاول الإنسان منذ قديم الزمن المحافظة على لغته بوسائل شتى، بل وحاول أن ينشرها في كل الأماكن التي استطاع الوصول إليها؛ لأن اللغة بالنسبة إليه مكوّن وجودي وجزء من هويته وثقافته، وأثرٌ منه يبقى شاهداً على مروره في هذا العالم.
وقد تطورت أساليب الإنسان في الحفاظ على لغته الأم عبر السنوات والحقب، فبين الكتابة على الألواح الطينية حتى وصل إلى الألواح الذكية مرت تجربة الإنسان بالعديد من النجاحات والخيبات المتوالية، وبين التعبير بكلمات ثنائية الأحرف محدودة الأصوات والدلالة وصولاً إلى كلمات متعددة الأحرف متنوعة الأصوات والدلالات، كان الإنسان في كل تلك التجارب هو ابن اللغة البار، الذي وصل به المطاف في هذا العصر الموسوم بالعولمة والواقع الافتراضي إلى أن يجعل للغته يوماً عالمياً يحتفي من خلاله بلغته ويسلط الضوء على جمالياتها محاولاً تحقيق ذات الهدف الوجودي الكامن في نمو اللغة وانتشارها.
إن الثامن عشر من شهر ديسمبر في كل عام هو اليوم العالمي للغة العربية، وذلك بوصفها إحدى اللغات الرسمية المعتمدة من الأمم المتحدة، حيث تم اعتماد هذا القرار تدرجياً منذ عام 1954م حتى تمت بلورته بشكل نهائي واعتماده في عام 1974م، ثم كان في أكتوبر من عام 2012م وتحديداً في الدورة رقم 190 من دورات انعقاد اليونيسكو حيث تقرر رسمياً أن يوم الثامن عشر من شهر ديسمبر هو يوم عالمي للاحتفاء باللغة العربية.
لقد تميزت اللغة العربية عن غيرها من اللغات بكونها لغة ذات كفاءة عالية في التكيف والتأقلم مع متغيرات العصر، حتى وإن أصيبت بنوع من الكسل أو الضمور في وقت من الأوقات، إلا أنها سرعان ما تنهض من جديد وتعود أكثر رونقاً وتألقاً، فتاريخ اللغة العربية حافل بالعديد من حالات الجمود التي مرت به اللغة ثم ما لبثت أن عادت سيرتها الأولى، وهي بذلك ليست بدعاً من اللغات بل الأمر عائد إلى الإنسان الذي هو المشغل الرئيسي لآلة اللغة، فهو الذي فُتن باللغة العربية وجمالها، حيث نجده عبر الزمن يضحي من أجل بقائها بالكثير من الجهد والوقت، فهو يرى في لغته سجل مفخرته وإرثه، وكلما ظهرت أصوات هنا وهناك تنادي بدنو أجل اللغة العربية، نراه ينبري دفاعاً عنها ونازفاً الكثير من الحبر في تدبيج الخطب والقصائد مترنماً بذكرها والتغني بجمالها وروعتها.
ولأن اللغة في معناها العميق ليست قواعد ومفردات في بطون الكتب والمعاجم وحسب، بل ممارسات وأنماط متعددة يعيش معها الإنسان بكافة تفاصيلها، يعبر بها ويفكر من خلالها، فقد ساهمت العديد من المنصات الثقافية في تفعيل تلك الممارسات وتنميتها، وكان مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) أحد أبرز تلك المنصات، حيث يحتفي المركز باليوم العالمي للغة العربية وذلك بالعديد من الفعاليات وورش العمل التي تستهلم من اللغة العربية سيرورتها واندماجها في حياة الناس.
إن اللغة العربية قصيدة في دواوين الشعراء ولثغة في فم الأطفال وحِكمٌ يسطرها التاريخ، ومعانٍ نبيلة تتناقلها الأجيال وتفخر بها، ولم يكن الإنسان في كل ذلك إلا الابن البار لها.