ما كان يفترض أن يكون: احتفاليات بيتهوفن التي خرجت عن مسارها
مما لا شك فيه أن ثقافة الأداء الحي عانت بشدة بسبب جائحة كورونا، حيث تم إلغاء كافة الحفلات الموسيقية، والمهرجانات، والمسرحيات، وعروض الأوبرا، إلا أن البعض منها أصبح يُنظّم افتراضياً على شبكة الإنترنت، وعلى الرغم من ذلك فقد تم تنفيذ الفعاليات بحضور جمهور قليل ومتباعد اجتماعياً.
وكان من المفترض أن يحتفل العالم هذا العام بمرور 250 عاماً على ولادة الموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن، الذي وُلد في 17 ديسمبر 1760م، وأن ينصبّ تركيز العالم على مدينة بون الألمانية التي ولد فيها الموسيقار العبقري، حيث أقيم العديد من الحفلات الموسيقية؛ إلا أنها لا تذكر مقارنةً بحجم ما كان مأمولاً أو مخططًا له.
وقد مثّلت الحفلات الموسيقية التي أقيمت بالفعل أعمالًا بطولية تتحدّى الظروف التي سببتها جائحة كورونا، العدو غير المرئي الذي تسبب في أذى حياة وصحة بل وحتى وظائف العديد منا، وضيّق سُبل عيش الملايين من البشر؛ مّما جعل حياتهم معرضة للمخاطر، إضافةً إلى العيش تحت ظل وضع اقتصادي غير ثابت.
فعبقرية بيتهوفن تتجاوز الأمم، والقارات، والقرون، وثمّة قوة وكثافة في موسيقاه وبعض مقطوعاته، مثل البدايات الأولى من "السيمفونية التاسعة"- بسيطة بما يكفي لأن يعزفها الأطفال المستجدّون في تعلّم العزف على البيانو، وبعضها الآخر- مثل "سوناتا كرويتزر" التي تعدّ صعبة للغاية لدرجة أنّ من النادر عزفها.
كان من المتوقع أن يحضر ملايين الأشخاص لحفلات موسيقية تقام في جميع أنحاء العالم، وخاصة في بون، المدينة التي ولد فيها الموسيقار، وفي فيينا، حيث وصلت عبقريته الموسيقية إلى أعظم مراتبها قبل وفاته في العام 1827م وعمره يناهز 56 عامًا، فيما سعت بعض الحفلات الموسيقية عبر الإنترنت إلى جمع فنانين من شتّى أرجاء العالم لعزف أعماله.
وهي بكل تأكيد جهود ملهمة، وتمثّل بطبيعتها فعلًا مقاومًا للجائحة، ولكن ليس لها قوة العزف الحي وحيويّته، فمع العزف الحي، يشعر المرء بأنه منغمس في الموسيقى التي يتردد صداها من جميع أنحاء القاعة، ويشعر المرء بارتعاش داخل المبنى، بل يشعر حتى بالموجات الصوتية تداعب مسامات بشرته، وتدبّ الحماسة والشعور بالطاقة بين العازفين من خلال وجودهم معًا.
لاشك أن الافتقار إلى الحفلات الموسيقية الكلاسيكية الحية ليس مأساة بقدر ما نرى الوفيات والمعاناة والضعف الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا للعالم، لكنها جزء ممّا افتقدناه، ونقص الموسيقى الحية يؤثر سلبًا على حياة الناس، وهذا يشمل فناني الأداء، وفرق الدعم، والأشخاص العاملين في المباني، والعديد من الأشخاص الذين يضعون جزءًا من دخلهم في أعمال الثقافة الحية، كشركة المطابع تحصل على مبيعاتها من برامج الحفلات الموسيقية وشركات التموين التي تقدّم الطعام للعازفين وللجمهور، إضافةً إلى فرق هندسة الصوت التي تستمد جزءًا من دخلها من الحفلات الموسيقية الحية.
وقد عاش بيتهوفن نفسه الكثير من الشدائد والمعاناة، حيث عانى الكثير من القسوة من والده منذ طفولته، وفقد بيتهوفن والدته عندما بلغ من العمر 17 عامًا فقط، ولعلّ معاناة بيتهوفن الأشهر عندما تعرض إلى صعوباتٍ سمعيةً شديدةً لفترة طويلة من حياته، وعلى الرغم من أنه لم يفقد سمعه تمامًا، فقد أُجبر على قيادة فرق أوركسترا مرتديًا أجهزة سمع بدائية من القرن التاسع عشر، وفي ذلك الوقت، كانت إدارة الأوركسترا الحية مصدر دخله الرئيسي، ولم تسمح التقنيات في ذلك الوقت للملحنين بالاستفادة من تسجيلات موسيقاهم.
لكن بيتهوفن كان يتحلّى أيضًا بعين متبصّرة في العلاقات العامة والترويج لذاته، فقد كلّف برسم بورتريهات شخصية له، رمت إلى التأكيد على طاقته وإبداعه، واشتُهرت هذه اللوحات على نطاق واسع، وساعدت في تعزيز شعبيته.
كما كان بيتهوفن رمزًا سياسيًا، إذ كان العامل الرئيسي في اختيار مدينة بون لتكون مقر حكومة ألمانيا الغربية بعد عام 1945م، حيث أراد الحلفاء مركزًا يرتبط بأفضل ما في الثقافة الألمانية بعيدًا عن تاريخها في القرن العشرين.
ومنذ ذلك الحين، تجاوز بيتهوفن الحدود السياسية حتى أصبحت موسيقاه تقليدًا من تقاليد ليلة رأس السنة في اليابان، وباتت تُغنّى نشيدًا لمجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي على حدّ سواء، وأعيدت صياغتها إلى نغمات إلكترونية حديثة، حتى أنّ فرقة رباعي الفلسطينية أحرزت نجاحًا كبيرًا عندما عزفت مقطوعة "من أجل إليزه" باستخدام الآلات الشرقية، بما فيها العود، بل إن سيمفونيته الخامسة وُضعت ضمن السجل الذهبي على مركبتي الفضاء فوياجر1 وفوياجر 2، التي غادرت النظام الشمسي منذ ذلك الحين.
وإذا كانت الأحداث قد منعت ألمانيا من تنفيذ خططها الطموحة على مدى عام في ذكرى بيتهوفن، إلا أنّ موسيقى بيتهوفن ما زالت تواصل تجاوز الحدود، والثقافات، والأنواع الموسيقية.
بقلم موردو ماكلويد