فيصل سمرة: مثابرةٌ وفرصةٌ ثانية
فيصل سمرة في الاستوديو السعودي الخاص به، جاهز لبدء مقابلة الفيديو. لا يضيّع لحظةً واحدة، فهو يقوم بالرسم أثناء انتظاره. وهو فنان رائد في الخليج العربي، وُلد في البحرين، ونشأ في المملكة العربية السعودية التي غادرها ليدرس في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة (ENSBA) في باريس. ومنذ إنهاء دراسته قام بعرض أعماله، وعمل مع مراكز ثقافية مختلفة ضمن المنطقة وفي كافّة أرجاء العالم.
وتضمنت أعماله عبر السنين الرسم والنحت وفن الأشياء الموجودة والفيديو والتصوير والأداء. وتمتاز أعمال سمرة الحالية بكونها تجريدية وتعبيرية في مظهرها بشكل كبير، ولكنها مستوحاة من الميول المفاهيمية والأفكار والقيم، ومن شعور بالإلحاح الأخلاقي، ففكرة الجسد البشري والمنظور الذاتويّ والثقة المضلّلة التي يضعها الناس في بنى مصممة للاستهلاك العام كلّ ذلك يشكل الجوهر الخالد لأعماله. انتقل سمرة من سلسلة إلى أخرى متبعًا أفكاره ليجد الوسط الأنسب لإظهار محتواه، ونتيجة لذلك يمكن أن تبدو أعماله التي تعود لسلسة ما، تشبه قليلًا بالسلسلة التي سبقتها.
انضممنا لسمرة افتراضيًا من مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) للحديث عن كيفية تأثير جائحة كورونا عليه كفنان، وللاستماع لأفكاره حول مدى إمكانية نجاح الثقافة في عالم ما بعد الجائحة. "بالنسبة إلي، كان الأمر شبيهًا بمعظم الفنانين"، يقول سمرة. "فنحن نعمل لساعات طويلة في الاستوديو غالبًا. الذي تغير حقًا هو أنني أضفت عادات أكثر، كارتداء كمامة وقفازات وممارسة التباعد الاجتماعي وعدم السفر، وهو الأمر الأصعب؛ لأنني أسافر كثيرًا من أجل عملي، لكن من الناحية الإيجابية، فإن اضطراري للبقاء في المنزل معظم الوقت، شجعني على الإنتاجية والعمل".
يصر سمرة والذي يحب أن "ينظر إلى النصف الممتلئ من الكأس" على الاحتمالات الإيجابية التي يمكن أن تنتج عن الاستجابة الإنسانية للجائحة "ربما تكون هذه فرصة ثانية لنا، للإنسانية، لتبدأ بمعالجة الكثير من الأشياء، ومعالجة أجسادنا وأرواحنا وبيئتنا. هذا هو الجزء الإيجابي إذا أمكننا المحافظة على استهلاكنا وضبطه".
ولطالما ركز سمرة منذ وقت طويل على خلق التوعية حول كيف ولماذا يستهلك الناس بهذه الطريقة، وحول تأثير هذا على البيئة، وصحتنا وصحة الأجيال المستقبلية. ويستأنف حديثه قائلًا بأسف: "إذا استمري ت بكنس التراب تحت السجاد، سينتهي بك الأمر بجبل من التراب تحت السجاد".
وبالنسبة إلى سمرة، يرتبط الاستهلاك وحماية البيئة ارتباطًا وثيقًا بأخلاق الإنسان. وقد كانت الجائحة بمثابة مقاطعة للسلوك البشري الطبيعي، وهو يرى "فرصة ثانية" و"بداية جديدة" في احتمالية أن يلاحظ الناس وأن يهتموا، وأن يختاروا أن يقوموا بالتغيير.
يقول سمرة: "أعتقد أنه قبل هذه التجربة، كانت البشرية منهمكة بالاستهلاك وتلويث الكوكب، لم نهتم بأي شيء، لا البيئة ولا الحيوانات... كنا نستهلك كالمجانين، هذه فرصة ثانية لنا، لماذا يجب أن نستهلك بهذا القدر الكبير؟ لماذا يجب علينا أن نلوث بهذا القدر؟ إن هذا يعرض الأرض وحياة أطفالنا وأحفادنا إلى الخطر، لقد كنا نفكر بأنفسنا فقط، ولقد جعلتنا الجائحة نرى النتائج على البيئة الآن. إنها تتعافى وهي رائعة، وآمل ألا نعتقد أنه بإمكاننا العودة لما كان، حيث يجب أن نتأقلم على "الوضع الطبيعي الجديد" لنجعله بداية جديدة من خلال نشر التوعية عبر الفن والثقافة والإعلام وأيًا كان."
لقد عُرِضَت سلسلة سمرة عن الواقع المشوه في المنطقة وفي أوروبا وحتى كوريا الجنوبية. وفي تلك السلسة يقوم الفنان أو غيره بأداء أمام عدسة الكاميرا، وتم تصوير الشخصيات إلى جانب دعائمهم، وكماماتهم، وملابسهم وخلفياتهم كصور رقمية ثابتة تم تغبيشها ولفها، ليس بتأثير تلاعب رقمي، وإنما من خلال حركة المؤدين أنفسهم، حيث سعى سمرة من خلال هذه السلسلة التصويرية إلى دفع المشاهدين لسؤال أنفسهم عن الثقة التي يعطيها الناس للصور المفبركة والتسويق، والذي يقود إلى الاستهلاك الزائد للمنتجات الهائلة، ورسالته الدائمة كما يشرحها، هي بسيطة: "لا تستهلكوا أي شيء لستم بحاجة إليه"، بينما تذهب رسالته الأخلاقية لأعمق من ذلك: لقد سمحنا لأنفسنا أن نضِل أخلاقيًا فيما يتعلق بالاستهلاك، وانغماسنا في الأشياء ليس سوى خيار من الوفرة التي تشجع على فقد الضمير وإيذاء الكوكب والأجيال القادمة.
يعمل سمرة منذ 2016م، على سلسلة تجريدية غير سردية. وبينما يميل الفن التصويري إلى نقل المشاهد إلى زمان ومكان الرمز/الشخصية، يشجع الفن التجريدي –بما فيه سلسلة "المشاعر المزدهرة – اللحظة الخالدة"- الحس التجريبي للحظة الراهنة، وهو يعكس بحسب شرح الفنان "السؤال الأكبر الذي يسأله الناس لأنفسهم: من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ ومن نحن الآن في هذه اللحظة؟"، ويتمحور عمله حول "المسافة بين الحياة والموت. الهوية الوجودية."
ويوضح سمرة أنه يعتقد أنه من المبكر جدًا أن نقوم بادعاءات حول تأثير الجائحة على الفن، سواء من حيث التوجه أو التأثير على إنتاجه الخاص، إلا أنه من الأكيد أنّ هذه لحظة حرجة للإنسانية ووقت مهم للفنانين، و"القاعدة الذهبية"كما يشرح، "تتمثل في الاستمرارية. أعتقد أن أفضل ما يمكن أن نقوم به في الوقت الحالي – كحكومة ومراكز وجميع المنصات التي تستضيف الفن بطريقة أو بأخرى- أن نشجع كل الأشخاص المبدعين على الإنتاج، وهذه لحظة مهمة جدًا. يجب أن نشجعهم من خلال تكليفهم، عبر تأمين منصة لعرض أعمالهم للعموم، حيث سيكون لهذا تأثير مهم على الجمهور، مظهرًا نتاج المبدعين".
وبمعنى آخر، فإن سمرة لا يرى الجائحة كنقطة تحول فحسب، بل كفرصة يجبُ استثمارها. وبينما يبدو أن أعماله تركز على القضايا الفلسفية كالأخلاق والوضع البشريّ -"الهوية الوجودية"-، إلا أنها عملية بشكل جوهري من ناحية تغيير تفكير وسلوك الناس: الاستهلاك، والبيئة، وتغيير كيفية رؤيتنا للعالم وغيرها، وتتمثل هذه العملية على سبيل المثال في أسلوب سمرة لتنمية قطاع الفن والثقافة، حيث يقول: "إذا شجعنا الإبداع، فإن هذا سيُشجع السياحة، وسيساعد الاقتصاد –ليس السياحة الترفيهية فحسب، بل السياحة الثقافية. فنحن نحتاج إلى مشاريع فنية وثقافية كبرى لتلهم العالم على القدوم إلى هنا".
ومن خلال خبرته في فرنسا والمنطقة، يؤمن سمرة أن الحكومة تحتاج إلى "زرع البذرة الأولى"، وعندها سيتبعها القطاع الخاص. فتشجيع المبدعين ودعم الفنانين الشباب ليس كمالية وإنما ضرورة ثقافية: "إذا أوقفنا التمويل ستتضاءل الأشياء وتختفي لذا يجب ألا نستسلم. لا تتوقفوا. قوموا بكل ما يمكنكم عمله وحافظوا على سير الأمور تابعوا وعندها سنتمكن من الاستمرار بعد الجائحة وسنكون واقفين".
كما يؤمن سمرة أنه يمكن للحكومة أن تتبنى سياسات تدعم نمو قطاع الفنون والثقافة، "كاقتطاع الضرائب، أو إذا أراد أحدهم بناء منصة ثقافية كبيرة، فإنه يتوجب عليه دفع تكاليف البناء والعمليات، ولكن يمكن للحكومة على سبيل المثال أن تعطيه الأرض التي يمكنه البناء عليها".
وبينما لا يعارض استعمال أو اختبار التكنولوجيا الرقمية، إلا أنه يمتلك شعورًا قويًا تجاه أماكن عرض الفن العامة ويحزن على كيفية منع الجائحة لاختبار الفن شخصيًا، ويقول في هذا السياق: "إنه من المهم للناس أن يتفاعلوا، فنحن نحتاج أن يكون اختبار الفن شخصيًا، تساعد التكنولوجيا الرقمية على تسهيل حياتنا، ولكنها حقبة باردة جدًا. إذا لم ندعمها بالوجود الفعلي، فإنها مجرد وهم، يجب أن نتأقلم، وأن نرتدي الكمامات ونمارس التباعد الاجتماعي –فهو الوضع الطبيعي الجديد– لكن يمكننا أن نقوم بذلك ونحن في المتحف، يمكننا التحكم بأعداد الناس والتباعد الاجتماعي وغيرها، ولكن لا يجب علينا إلغاؤها يجب أن يكون الناس هناك".
ولا يتحدث سمرة عن اختبار الفن والحرف بشكل ملموس فحسب، بل عن تفاعل الناس والغنى الثقافي للتجارب المشتركة أيضًا، ويتحدث عن هذا من ناحية الهندسة الاجتماعية الأنيقة والمعقدة. "مشاهدة عمل فني في المتحف وبجانبك شخص آخر يشاهد العمل نفسه، حتى لو لم تتكلما، هي مساحة مشتركة وفكرة مشتركة تؤثر في كليكما في الوقت ذاته، إنه مثلث في هذه الحالة، عمل فني وشخصان، ويمكن أن تحصل على عدد لا نهائي من الأشكال بوجود مزيد من الناس حول العمل الفني. إنه رائع وجميل. لا يجب أن نُغيب التواجد الفعلي وأن نجعل كل شيء على الإنترنت. إذا قمنا بذلك فإننا سنصبح آليين."
إن فهم سمرة للفن غني ومعقد. ويبدأ بما هو مهم ذاتيًا له وهو عمله، رؤية شخصية، لكن اختبار عمله من قبل مُشاهد يستحضر رؤى فنانين آخرين عاشها المشاهد. إن هذا الكم من وجهات النظر يجعل للثقافة تأثير أكبر بكثير من عمل فردي أو فنان واحد. وهذا يحاكي النموذج الهندسي الذي بدأ بمثلث والذي يمكن أن يتوسع إلى كوكبة واسعة. عمل سمرة -بحسب رؤيته- هو أن يصبغ عمله برؤيته الشخصية، ولكن الأمر لا يتعلق به فقط، بل يتعلق بالحوار والتنوع ووجهات النظر المتعددة والإنسانية.
يقول سمرة: "أنا لست هنا لأُرِي الناسَ ما يريدون رؤيته، فأنا كفنان هنا أفعل ما يثير اهتمامي، وما يلمسني، وما يشغل عقلي. يقدم الفنانون رؤاهم الخاصة إلى هذا العالم. وعندما يرى الناس الكثير من الأعمال المقدمة من كثير من الفنانين، سيمكنهم فهمها بشكل أكبر. كل فنان يرى العالم بشكل مختلف عن سائر الناس، يرى تفاصيل العالم الحالي وكيف نتفاعل معه، وأنا أظهر رؤاي الخاصة عن هذا العالم لتتمكنوا من رؤية رؤى وآراء وأبعاد أخرى لهويتكم عندما ترون هويات أخرى معروضة، إنها حوار مع المشاهد دائماً".
سمرة هو شخص عملي ومتفائل. حتى في أثناء الجائحة، فإنه ينظر للمستقبل والعمل على تحويل هذه اللحظة إلى فرصة. فهو يؤمن أنه يمكن للفنانين أن يحدثوا "تغييرًا كبيرًا" خاصة إذا قدموا أعمالًا عامة وحافظوا على رسالتهم، سواء أكانت اهتماماتهم بيئية، أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها. بالنسبة إليه، فإن كورونا ليس نداء صحوة فحسب، بل نداء فعل: "يجب أن نعوّد أنفسنا على هذا الوضع الطبيعي الجديد لنجعله بداية جديدة من خلال نشر التوعية عن طريق الفن، والثقافة وأي وسيلة أخرى ممكنة. إذا تمكنا من فعل ذلك، عندها ستكون بداية جديدة".
تتضمن معارض الفنان الفردية المختارة معرض أيام، في القوز بدبي (2019، 2014)، لندن 2014، وجدة 2013.
هذه المقابلة بين إثراء و (مجموعة من الضيوف) هي جزء من سلسلة حوارات حول تأثير جائحة كورونا، ومستقبل الصناعة الإبداعية.