لقد كانت الآلة في بداية الثورة التقنية عدوا للفن غالبا؛ وحتى إذا لم تصل علاقتهما درجة العداوة فإنها تميزت بنوع من الريبة وعدم الارتياح المتبادل؛ فالفن سليل الطبيعة، بينما الآلة بنت الصناعة
والتصنيع.
لدى بعض الفنانين موقف مبدئي من التقنية، إذ يعتبرها مطية يستغلها البعض بديلا عن الموهبة أو مكملًا لها.. ورغم أن الفن أصبح مع الوقت أقل اغترابًا في عالم التقنية وأكثر قدرة على الفعل والتفاعل في حضورها، بل والاستفادة منها في يومياته وتفاصيله الصغيرة، غير أن علاقتهما ظلت علاقة قلقة.. فهل جاءت فترة الحجر الصحي لتكون وسيطا بين الفن والتقنية؟
وصول الفنان إلى الجمهور، هي إحدى غايات الفن العليا سواء كان الفن من أجل التغيير المجتمعي، أو فقط بدافع الإمتاع ونشر الجمال. وفي الظرف الآني، ظرف الحجر الصحي، لم يستسلم الفنانون والمشتغلون في القطاع الثقافي، بل واصلوا الإنتاج والتفكير في طرق إبداعيه لإيصال منتجهم الفنى إلى جمهورهم المعهود، بل واكتشاف جماهير جديدة مساحات وفضاءات لم تكن مطروقة بالقدر الكافي في الظروف الطبيعية.
إن وقت الفراغ الهائل المتاح لأغلب سكان الكوكب نتيجة للحجر الصحي، جعلهم يبحثون عن فسحة جمالية وفرجة جذابة، يفرغون فيه ساعات الملل المنزلي المتراكمة، وكانت هذه فرصة ذهبية لزيادة حضور الفن، حيث نال نصيبا من اهتمام ووقت الجماهير: حفلات غنائية تنطلق من البيوت لفنانين مشهورين ومغمورين على حد السواء، على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، عروضٌ جماعية وفردية، أوركسترا يشارك فيها فنانون يعزفون بشكل متزامن ويتشاركون قاعة عرض افتراضية كبيرة، في
الوقت الذي يوجد كل منهم فيزيائيا في بيته، معارضٌ تشكيلية وفنون بصرية، وأمسياتٌ شعرية وعروضٌ سينمائية ومسرحية وجولاتٌ في المتاحف وإبداعٌ وتجريبٌ وتجريدٌ.. هذا هو المشهد الثقافي والفني على الإنترنت، محضرا ومنسقا ومنظما حينا، ومرتجلا أحايين أخرى.
يمكننا القول إن الاستفادة من التقنية أصبحت موضة في هذا الزمن المنزليِّ بامتياز إلى حد أن الفنانين دخلوا في موجات منافسة غير معلنة، لحجز مكان ومكانة في مساحة العالم الافتراضي، والاستئثار بوقت واهتمام الجمهور المتسمر أمام الهواتف والألواح الإلكترونية والحواسيب، حتى غدت منصات التواصل الاجتماعي مركزا ثقافيا وفنيا كونيا مفتوحا على كل نوافذ الفن والثقافة والإبداع، أمام كل من يملك تذكرة الدخول: شاشة وأنترنت ووقت.
وهنالك نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها بكثير من التفاؤل، وهي تلك المتعلقة بالتعليم، إذ يبدو أن هناك ارتفاعا ملحوظا لمنحنى التعلم الافتراضي عن طريق الانترنت عموما، ولَم يكن الفن بمعزل عن هذا الارتفاع حيث استفاد هو الآخر، وبات ملاحظا هذا الكم الهائل من ورشات التدريب المقترحة في كل مفاصل الفن واتجاهات الثقافة. انطلقت عشرات الورشات التدريبية وافتتحت قاعات التعليم عن بعد ومنصات التدريب الإلكترونية، ولجها المبتدؤون ليتعلموا الرسم والسينما، وتعلم آخرون الموسيقى والنحت، ووجد آخرون فرصة لتعلم تقنيات الكتابة وبحور الشعر.. ولم يقتصر الموضوع على المبتدئين فقط لأخذ أبجديات بعض الفنون، بل وجدها الممارسون أيضا فرصة لرفع خبراتهم وزيادة معرفتهم وتطوير إمكانياتهم الإبداعية.
من كان يحلم مثلا بإحياء حفل غنائي يحضره ويتفاعل معه عشرات الآلاف من المتفرجين؟ أي قاعة في الواقع تتسع لكل هؤلاء؟ وهل تسمح الجغرافيا والحدود وفوارق التوقيت بهذا التجمع الهائل؟ كل هذه التساؤلات أصبحت متجاوزة عمليا حيث وجد الإنسان نفسه محاصرا بين أربعة جدران فاستطاع تحويل المعضلة إلى فتح عظيم وكان الفنان أكبر المستفيدين من تطويع التقنية واستغلالها خدمة لعيون الفن وروحه.