وقد كان للإنسان في الجزيرة العربية قديماً العديد من المغامرات التي أسس من خلالها حضارته ورسّخ عن طريقها قيمه ومبادئه، فمن طريق الأدب العربي تتسرب إلينا بعض تلك المغامرات التي واجه من خلالها ابن هذه الجزيرة الكون من حوله؛ ليثبت جدارته بتخليد اسمه في سجل التاريخ البشري.

ولعل من أبرز المغامرات التي خاضها الإنسان العربي قديماً مغامرته مع الظلام وخوفه منه. الظلام، ذلك الضوء الأسود، الكائن الأسطوري الذي يتمطى بصلبه طويلاً، وتتنزل منه أنواع الهموم في قلب الإنسان المقيم تحته، فهو منبع الشر في اللاوعي الإنساني، وهو الغاسق الذي يستعيذ منه الناس إذا وقب، لقد قالوا بأنه "أمرٌ يهولك، ويدخل عليك فيه من انقباض النفس عن الحركة واضطرارها للوقوف عن العمل وركونها إلى السكون، ما لا تجد عنه مفرًا. فهو سلطان من الخوف مبهمٌ لا تحيط بأسبابه ولا بتفصيل أطواره، فهو أشبه بالجلال الإلهي، يأخذك من جميع أطرافك وأنت لا تدري من أين أخذك".

 لقد تجرأ الإنسان عليه وحاول مراراً التغلب على شعور الخوف منه، تارة بإيقاد النار مع أول كسرة ظلام تسقط من السماء، وتارة بالغناء الشعري وأحاديث السمر، وإن لم تكن تلك المحاولات جريئة بما يكفي لكسر حاجز الظلام، إلا أنها تشي بمحاولات جادة في الوصول إلى ذلك؛ ليصل بعد ذلك الإبداع في عقل الإنسان العربي إلى ابتكار فكرة اللعب في الظلام، هذه الفكرة التي أعلنت عن فك شفرة الخوف من الظلام عن طريق ألعاب متعددة تتم ممارستها في حضن الظلام، في مملكته وبين حراسه وأسلحته.

من أبرز تلك الألعاب لعبة (عظمُ وضّاح) أو (عظيم لح) التي لا تُلعب إلا في ظلام دامس، حيث يأخذ أحد الفريقين عظمًا أبيض، ثم يرمي به في جوف الظلام، فينطلق الفريقان بحثاً عنه، فإن وجده أحد الفريقين ركب أصحابه على أعناق الفريق الآخر من الموضع الذي يجدونه فيه إلى الموضع الذي رموا به معلنين انتصارهم في اللعبة.

يشكل العثور على عظم أبيض في جوف الظلام الحالك تحدياً للظلام بالدرجة الأولى وتحدياً للخصم من بعد، لذلك كان واجباً أن يكون الاحتفالا مزدوجاً، احتفالٌ باللعب، واحتفالٌ بتجاوز الإنسانية مرحلة الظلام الموحشة.

المدونات المتعلقة

For better web experience, please use the website in portrait mode