الأغنية عندما تصبح هوية
بقلم المهندس أحمد المنعي - شاعر وكاتب ومستشار في صناعة المحتوى
كلُّ النفائسِ سوف أُرخص بذلها
والنفسُ أرخص فدية والجاهُ
نقرأ هذا البيت الجميل فنأنس به، إلا أننا نعود لنقرأه مرة أخرى عندما نعلم أنه بيتٌ من أبيات القصيدة المعروفة التي غناها الفنان الراحل طلال مداح رحمه الله (وطني الحبيب)، والحقيقة أن هذه الأغنية الوطنية الخالدة جديرة بالتأمل، وتناول أسرار خلودها ونفاذها إلى وجدان الناس، أليس من المدهش أن هذه التحفة الفنية التي صدحت بها إذاعة جدة لأول مرة قبل أكثر من ستين عامًا، لا تزال تولد كل يوم من جديد؟!
يخبرنا هذا العمل عن أثر الكلمة وسفرها عبر الزمن، إذ تولد الكلمات في البداية، ثم تجد طريقًا إلى فناء أبدي في غياهب النسيان، أو خلود أبدي على جدران الذاكرة، ولا شك أن هذا المصير مرتهن بقدرة الكلمة على الوصول لأعماق النفس، وملامستها لشغاف القلب. وعلى غير ما هو معتاد في قصائد الفخر والتغني بالأوطان التي تأخذ في الغالب طابع العرامة والقوة، عبّر كاتب القصيدة الدكتور مصطفى بليلة عن حبه لوطنه بمناجاة شفيفة ومعانٍ في غاية الرقة، وكأن القصيدة المقفاة بهاءٍ مضمومة كتنهيدة حُب، قد ترقرقت من ليالي المحبين وفيض عواطفهم، في بوح دافئ وصادق يتحدث عن العشق ولحظات الطفولة، وعن الأرض وحنين الأيام، وعن الامتنان ونعيم الاقتراب، وعن الروحانية والذكريات والخطى القديمة. لا يكاد يمر بيت من هذه القصيدة المُحِبّة دون أن يغمرك بعاطفة حقيقية حميمة، وشعور هانئ وغامر، وهو في رأيي أمرٌ لا يمكن للكلمة أن تحمله ما لم يخرج المعنى من مكان عميق في القلب، ثم يصل لمكان مماثل في وجدان المتلقي، وليس لهذه الصفة – كما أعتقد - أن تكون بالصنعة أو أن تُخلق بالتعمّل مهما كانت براعة الشاعر.
من جهة أخرى، تنبؤنا أغنية وطني الحبيب عن ذائقة استثنائية عُرف بها أستاذ الأغنية السعودية طلال مداح رحمه الله، فهو الإنسان أولًا وهو الفنان أولًا كذلك؛ فقد تعلق بالقصيدة وطلب أن يغنيها، لأنها لامست شعوره كإنسان، كما أنه أبدع لها هذا اللحن الناعم المتدفق، لأنها لامست ذائقته كفنان، فكان هذا العمل المتناهي في جماله والذي تتعانق فيه الكلمة الرقيقة مع النغم الهادئ في تناغم مذهل، ثم تمتزج كل هذه المكونات في صوت الأرض، الصوت الساحر العذب الذي يعبر على المسامع وكأنه بساط ريح يحملك إلى عالمٍ آخر.
هكذا ولدت هذه الأغنية لتكون الأولى من نوعها في حينها، والأولى عبر الأجيال بعد ذلك مهما اختلفت مشاربهم وتفاوتت معطياتهم واهتماماتهم، إنها أربع دقائق تقريبًا بعمر أمّة، كُتب لها أن تستعصي على عاديات الزمن، وأن تُوغل في الجمال حتى تتجاوز تعريفها كعمل فني لتتجذر في النفس وتكون وجهًا للوطن، وهويةً للإنسان، وحبًا سعوديًا بينهما.