صب القهوة والاستماع إلى الحكايا
نظرة على تقليد "الحكواتي" في السرد الحديث للقصص
حبّ، وخيانة، وإثارة، ودراما... هي سمات لقصصٍ أسرتنا على مدى مئات السنين. قبل أن تكتسح شاشات التلفاز وتتحول لأفلام مشهورة في السينما، كانت القصص تروى بطريقة تقليدية على لسان شخص واحد يُدعى الحكواتي، حكاية مفقودة في شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط، والتي ضاعت في عصر التكنولوجيا.
تتكون كلمة "حكواتي" من مزيج كلمتين عربيتين هما: حكاية وتعني "القصة"، وحكي وتعني "أن يتكلم المرء" والشخص الذي يحكي الحكاية وهو الحكواتي.
منذ سنوات عديدة، تحت أشجار النخيل وفي الأراضي الصحراوية، وفي الأكواخ والمنازل القبلية، كان الناس يجتمعون ويستمعون للتخيُّلات والحكايا المتشابكة المحبوكة والمروية على لسان الحكواتي. فهل ضاعت تقاليد قصّ القصص منّا إلى الأبد؟ وهل تجتمع العائلات معاً لمشاهدة ومضات وعروض التلفاز دون مبالاة، أم أننا حافظنا على تقليد رواية القصص حياً ومعافى بعد الحكواتي "فن رواية القصص العربي القديم"؟
في كل عام، وعندما يقترب شهر رمضان، تحضّر العائلات الدّلة، وتخزّن السمبوسك في الثلاجة، وتستعد لتقديم وجبات الإفطار وصب القهوة. رمضان هو الشهر المقدّس الذي يكون فيه المناخ مختلفاً-يغمرنا إحساس بالسلام، وتغذينا رابطة قوية بالإيمان، ورابطة أقوى مع عائلاتنا، كل ذلك يتجمع في هذا الشهر.
بعد تناول الإفطار، يظل الاجتماع في غرفة المعيشة من عادات معظم الأسر، حيث يتم تقديم القهوة والشاي مع تحلية بجانبها: تمور حلوة من أشجار نخيل الأحساء، وحلويات تقليدية، وطبعاً جهاز التحكم عن بعد، لتعرض الشبكات المتلفزة نغمات رمضان المألوفة (كما في كل عام) وتبدأ مسلسلات رمضان المتنوعة.
يظل ناصر القصبي، دائمًا مبهج الجماهير بتمثيله الكوميدي الكلاسيكي وأدواره الدرامية المشهورة، بينما أسرت سعاد عبد الله المشاهدين بأدائها عبر سنوات، وقد لقبت بـ"سندريلا الشاشة الخليجية" وغيرهم الكثير من الممثلين الذين يأتون ويذهبون كل رمضان، ليُمتعوا الجمهور من خلال الكوميديا والدراما وغيرها الكثير.
بمجرد أن ينتهي البرنامج التلفزيوني، حتى يشعل موضوع ما النقاش، وتدار حوله الأسئلة من نحو "لماذا تعتقد أنه فعل ذلك؟" "ماذا يعني ذلك لتلك العائلة؟" "هل لاحظت الإشارة إلى المشكلة التي نواجهها اليوم؟" مازال قصّ القصص حقيقيًا، ومازال المتابعون ينجذبون إليها ويتفكرون في القصص والدروس المستفادة منها، خاصة في رمضان، فعندما تجتمع العائلات، يشتغل التلفاز وتنكشف قصة ما، لذا نجد أنه وبعد انقضاء سنوات على تقليد الحكواتي، إلا أن الهدف والمبدأ مازال باقياً بقوة.
بعد الحكواتي، ومع صعود عصر التكنولوجيا، مازالت رواية القصص مفهوماً حاضرًا ومهماً في الثقافة العربية. حيث تتم مشاركة القصص بين الناس بشكل عفوي – في اجتماعات العائلات حيث تكون النكات في صميم المحادثات، وفي المقاهي حين يتحدث الأصدقاء عن أيامهم وآخر الأحداث الدرامية الجارية، وغيرها من التجمعات التي تروّج للقصص من خلال التفاعلات اليومية. وقد تغيرت تقاليد رواية القصص عبر السنوات، حيث تشكّلت رواية القصص اليوم في قنوات رقمية حيث يجتمع أساتذة رواية القصص في الأفلام والمسرح لرفع الحبكات وتعميق تطوير الشخصيات.
وللمحافظة على تقليد حكاية وقص القصص في الزمن الحديث، اتخذ مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) خطوات مهمة تجاه ذلك ولاسيما في مجالي الأفلام والمسرح، من خلال مجتمع أفلام إثراء ومجتمع مسرح إثراء، حيث يجتمع صانعو الأفلام وكتّاب النصوص، والمخرجون، والمنتجون المحترفون والهواة وغيرهم الكثير لمناقشة الأفلام، وحضور عروضها، وقراءة النصوص، ومشاركة الأفكار، وغير ذلك الكثير للارتقاء بمهاراتهم وشغفهم برواية القصص الحديثة. يقف إثراء كمنارة للتغيير في المملكة العربية السعودية، حيث يدعم تقاليد رواية القصص والروح الثقافية من خلال الأسلوب الحديث في رواية القصص.
إن جذور قصّ القصص حيّة في الثقافة العربية، حيث تسلط مسلسلات رمضان التلفزيونية الضوء على موضوعات مماثلة لتلك التي كان يتم تقديمها بواسطة الحكواتي، ويتم تغذية هذا الفن من خلال مجتمع أفلام إثراء ومجتمع مسرح إثراء، حيث تتشارك الجماهير من مختلف الأوساط أفكارهم وشغفهم بجمال القصص السردية.
يبدو أن حقبتنا الحديثة فائقة السرعة قد تجاوز العادات القديمة، لكننا إذا نظرنا عن قرب، سنلاحظ أن العادات تمثلت في أشكال حديثة، ليس إلا. إن بذور رواية القصص التي زرعها الحكواتي في شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط منذ وقت طويل قد نمت الآن بطرقٍ متنوعة ووصلت إلى الجماهير بشكل كبير خلال شهر رمضان الفضيل.