الإبداع هو عمليّة التمرّد على رتابة الواقع اليوميّ. هذه هي الفكرة التي ينظر من خلالها الناس إلى هذا المصطلح، الذي لطالما أثار الجدل، باعتباره مفهومًا خارجًا عن المألوف، وعمليّة مختلفة في طبيعتها عن النشاط البشريّ الاعتياديّ، القائم على فكرة التعوّد والتكرار. كما ينظر هؤلاء الناس إلى هذا الشخص المسربل بالطلاسم، المبدع، باعتباره كائنًا أسطوريًّا آثر الانسلاخ عن طاحونة الشيء المعتاد، والجلوس على الربوة ليصنع نجوميّته الخاصة.
وعلى الرغم من هذه المسحة من الفردانيّة، التي تحيط بالمبدع وبعمليّة الإبداع نفسها، بوصفها مخاضًا يستوجب الانعزال والتفرّد، والنظر إلى الموجودات من زاوية مختلفة، إلّا أنّها في حقيقتها عمليّة تبدأ من المجموعة، وإليها تنتهي. إذ لا يمكن للعزلة والفردانيّة أن توصف بأنّها بيئة مناسبة لنمو حسٍّ إبداعيّ أو فنيّ يراعي الآخر، ويستشعر فيه مكامن النقص، التي تستفزّ الملكات الإبداعيّة، وتخلق الحاجة إلى تحسينها عبر آليّات الابتكار والإبداع.
كما أنّ القول بكون الإنسان مبدعًا بالفطرة، أو أنّه مبدع بطبعه، لا يجافي الحقيقة كثيرًا، إلا أنّه قول يبقى إثباته رهن تحوّل الإبداع إلى عمليّة جماعيّة، كلمة السر فيها هي التعاون والتبادل.
إنّ الإبداع - في جوهره - هو تفاعل كيميائيّ ينشأ من الشعور بالاختلاف، والذي ينشأ بدوره عندما يحاول كلّ فرد في المجموعة تناول الفكرة وتفسيرها من زاويته الخاصة، مما يؤدي إلى انتقاله إلى محاولة "النظر" إلى الفكرة من منظور الآخر، ويتحول بذلك إلى ناقد لزاويته الشخصيّة في النظر، لينتهي الأمر إلى تقلّص مساحة الخلاف، وتنامي مساحة الإبداع الجماعيّ. ويتضاعف هذا التفاعل الكيميائيّ الفريد من نوعه، كلما كانت المجموعة تعمل في سياق إبداعيّ أصيل، إذ قد لا يكون من الغريب أن نرى سجالات لا نهائيّة تتعلّق بتغيير لونٍ، أو تنسيقٍ ما.
نحن نخطو اليوم إلى مشهد جديد، قائم على نبذ الفردانيّة وتبنّى فكرة التعاون وعمل الفريق. لم يعد للنجوميّة الفرديّة ذلك البريق الخاطف للأبصار، الذي يُلغي المجموعة، تاريخيًّا على الأقل، ويسلّط بؤرة الضوء على الفرد، باعتباره المالك الأوحد لمفاتيح سيرورته الإبداعيّة. يمكن القول دون مبالغة: إنّه انتقال من هواية الإبداع إلى احترافه، وخلوص من البحث على الأداء إلى التركيز على النتيجة، التي بات محسومًا تعذر الوصول إليها من دون تعاون وتواصل وتبادل. ولئن كانت أهميّة التعاون - بوصفه قيمة أساسيّة في العمليّة الإبداعيّة - خفيّة في السابق؛ في ظلّ توهج النجوميّة الفرديّة، إلا أنّها اليوم واقع يزداد رسوخًا باستمرار.
ولسائلٍ أن يسأل عن المدى الذي يمكن أن تصل إليه قيمة التعاون وأثره على العمليّة الإبداعيّة، إلا أنّ الإجابة عن هذه التساؤلات لا تقف عن حد التعاون بين الأفراد داخل المجموعة، بل تتعداه إلى أشكال أخرى أكثر تنوعًا، فالتعاون بين المجموعات، أو بين الثقافات، على صعيد أوسع، هو أحد سمات هذا العصر، الذي ذابت فيه الأسماء والأشخاص، وتصدرت التبادلات الإبداعيّة والثقافيّة المشهد، وأصبحت العمليّة الإبداعيّة قابلة للبرمجة والتأطير، ولئن أدى هذا إلى اضمحلال الأنا الإبداعيّة الفرديّة العتيدة، فإنّه أسهم، من ناحية ثانية، في تحويل الإبداع إلى سلوك إنسانيّ اعتياديّ، متحرر من سلطان الصدفة، متحكّم في مصيره، مالك لمفاتيح سيرورته.
ولأنّ السيرورة الإبداعيّة اليوم أمام حتميّة تفعيل التعاون والتبادل، بوصفهما قيمتين أساسيّتين لاستمرارها، كان لا بدّ لموسم إثراء للإبداع "تنوين" أن يحتفيَ بهذا المشهد الجديد، من خلال مساراته التي تمحورت حول صناعة الإبداع وأهميّة التعاون الإبداعيّ في حلّ التحدّيات، وخلق الفرص الجديدة. وفنون الجرافيك والتواصل البصري، التي يلعب فيها التعاون دورًا بالغ الأهميّة في عمليّة الانتقال من اختلافات الأذواق ووجهات النظر، إلى إيجاد أرضيّات مشتركة ورؤى إبداعيّة أقوى تأثيرًا، بالإضافة إلى مسار التصميم المعماريّ وما يخلقه من فرص للفاعلين في هذا المجال الإبداعيّ للتعاون وتبادل الرؤى؛ للخروج بتصوّرات جديدة، ما كان لها أن تظهر لو بقي كلّ فرد متقوقعًا في رؤيته الخاصة. ليكون موسم "تنوين" القاطرة، التي تسحب المشهد الإبداعيّ نحو واقع جديد؛ تكون النجوميّة الوحيدة فيه للإبداع المتحرّر من قيود الصدفة، ومطبات المزاجيّة الفرديّة بكلّ تقلّباتها.