عن إثراء

يرحب إثراء بك في مغامرة جديدة وتجارب جديدة تغذي إبداعك وإلهامك وشغفك بالتعلم.

استكشف عن إثراء

عضوية إثراء

أبحر أنت وعائلتك في رحلة إلى عوالم الفن والثقافة والابتكار والكثير من عوالم المعرفة، واكتشف المكتبة…

استكشف عضوية إثراء

سلافا بولونين .. الفنان الذي تحدث بالصمت على مسارح العالم

تنطفئ الأضواء، ومع انطفائها تضيء المكان سمفونيّة من التعابير والمشاعر لا مثيل لها. هنا تتراجع الكلمة؛ لتفسح المجال للغة التعبير بالمشهد والموسيقى، وينحسر سلطانها في مملكة تحكمها الدهشة، ويسري عليها قانون واحد: العودة إلى الطفولة. إنه عرض الثلج Slava's Snow Show للفنان سلافا بولونين، الذي ما فتئ، منذ ثلاثة عقود، يملأ الدنيا ويشغل الناس، وينثر ثلجه أينما حلّ، فيذيب به جليد الأيام من على الأرواح الظامئة إلى سعادة الطفولة وأحلامها.

أعطى سلافا بولونين أبعادًا فلسفيّة وشعريّة لشخصيّة المهرج، ولسنوات طويلة طوّر فنا مأساويًّا ميتافيزيقيًّا للتهريج، يتعمق في الكوميديا التراجيديّة، ويبحث عن إجابة للسؤال: إلى أيّ مدًى يمكن الجمع بين الدراما والضحك؟ درس بولونين، خلال هذه السنوات، الإمكانيات التي يُتيحها التهريج، توقًا منه لفهم ما إذا كان ممكنًا أن يكون: غنائيًّا، أو شعريًّا، أو دراميًّا، أو مأساويًّا. لقد عرف سلافا كيف يخلق شخصيّات ومواقف تجمع بين الشاعريّة والواقعيّة، ليوجِد عالمًا مختلفًا وفريدًا من نوعه، وينشئ مسرحًا ينمو من نسيج الأحلام والقصص الخياليّة. ولئن اختار بولونين التمثيل الصامت في بداية مسيرته المسرحيّة؛ لقربه من الكمال؛ وفتحه آفاقًا قلما يبلغها الممثل العادي، إلا أنّه اكتشف بعد ذلك أن هذا غير كافٍ للاقتراب أكثر من الجمهور ومن الناس، فكان التحول إلى دور المهرج، باعتباره واحدًا من الناس، ولعلها الشخصيّة الوحيدة التي يستطيع الممثل من خلالها الأخذ بيد المشاهد ليكون معه على خشبة المسرح. تتمثل فلسفة بولونين في قاعدة أساسيّة: نحن لا نصنع مسرحًا، نحن نعيشه. لهذا كانت كلمتا "العمل" و"البروفات" ممنوعتين في قاموسه الذي لا ينهل إلا من مفردات البساطة والتلقائيّة والاندماج الكامل مع الجمهور.

تكمن، في ثنايا هذه الشخصيّة الفريدة، المهرج، سعادة سلافا بولونين وتصالُحه مع ذاته. يرى بولونين أنه يحترف السعادة، ويعتبرها مهمة لا يقدرها المجتمع حق تقديرها، حيث لا أكاديميّات للبهجة ولا مدارس للسعادة، وحيث تزداد الحاجة إلى إنشاء محميّات خاصّة للناس السعداء يعيشون فيها بسلام وهدوء ولا يخسرون سعادتهم. قد يكون من الصعب إضحاك الناس، إلا أنّ المهرج هو العنصر الذي يتمتّع بحريّة القفز فوق أسوار جدّيّة بيئته، ليصوغ قانونه الأول الصارم: كل شيء هام، ولكن لا شيءَ جديّ. ولا شكّ أن بولونين اختزل، في شخصيّة المهرج، كلّ فلسفته القائمة على اعتبار التهريج جوهر فنّ التمثيل والوجود المسرحيّ، إلى درجة تجعل أي ممثل مسرحيّ يحلم بأن يكون مهرّجًا. تمثل هذه الشخصيّة المثيرة للجدل كلّ ما في الكائن البشريّ من: تواضعٍ، وتلقائيّةٍ، وحريّةٍ، وكرامةٍ، ومرح، وتصل في تفردها إلى أن تصبح كائنًا ميتافيزيقيًّا يحتوي في ذاته على فكرة المسرح بأكملها. إنّ الشعر الحقيقيّ لا يولد إلا في أرواح لا تعيش على الأرض، بل تسافر في بحث دائم عن أحلامها وعن الكمال.

ولأنّ سلافا بولونين لم يكن ليكتفي بعيش سلامه الداخلي داخل محميّات سعادته، تاركًا "الآخر" يتخبط في واقعيّته، كان عرضه الفنيّ، Slava's Snow Show، الذي أصبح مسرحًا كلاسيكيًّا، له معجبون من كل مكان على هذا الكوكب، يمثل لهم الأمل في السفر إلى هذا العالم المذهل من الأحلام والأوهام، أو لعلها العودة إلى عالم الطفولة، ولجوء إلى واحة غناء وسط صحراء الماديّة والواقعيّة، وإلى العيون المتّسعة والفرح البسيط الذي عرفوه عندما كانوا أطفالًا. يمكننا القول إنّ Snowshow هو مجرد ذريعة للاحتفال بالحياة بطريقة تتمنهج فيها الحماقة، حيث يترك الجميع، صغارًا وكبارًا، حياتهم المنتظمة الرتيبة عند أبواب المسرح؛ ليدخلوا في حالة من البهجة التي تلامس حدود البراءة الساذجة.

 لقد نجح بولونين في خلق شخصيّة شاعريّة متجانسة، مستوحاة من الحزن الشعريّ لمهرج ليونيد إنجيباروف، والفلسفة العميقة للتمثيل الإيمائي لمارسيل مارسو، والكوميديا الإنسانيّة ​​لأفلام شابلن. ولا شكّ أنّ هذه التحفة الفنيّة لم تكن لتتربع في قلوب عشاقها حول العالم لولا فلسفة بولانين وزمرته، التي تنظر إلى العرض الفنيّ وإلى التهريج باعتباره متعةً لا عملًا، ليظلَّ هذا الفن عفويًّا وسحريًّا  حتى النهاية.

حظي عرض سلافا بولونين الرائد بأعلى الجوائز المسرحيّة في أكبر مسارح العالم: من لندن إلى نيويورك، ومن باريس إلى موسكو. إلا أنّ التتويج الحقيقيّ الذي ناله بولونين هو حتمًا نجاحه في إنشاء مسرح متفرد، من شأنه أن يسمح له بتحقيق أفكاره، وتجسيد تطلعاته وآماله في إمكانيّات لا حدود لها من المهرج، وتصحيح صورة المهرج الحقيقيّ في أعين الناس، بعيدًا عن الصورة النمطيّة التي تقدمها السينما التجاريّة، مخرجة المهرج من عالمه الطفوليّ إلى عوالم تتصارع فيها أعتى نزعات الشرّ الإنساني، ليبقى المهرج جوهرًا للوجود المسرحيّ، وليبقى ثلج سلافا ينهمر على أرواحنا؛ ويتيحُ لنا معرفة أنفسنا والاستمتاع بهذه المعرفة الحالمة الساحرة.


لاكتشاف المزيد عن عرض سلافا الثلجي

اضغط هنا 

 

المدونات المتعلقة

For better web experience, please use the website in portrait mode