لأن الوطن أغنية
ألحان وكلمات خالدة، تشهد بحبٍّ لا ينضب
لا يمكن أن نستذكر حبنا للوطن إلا مقرونًا بأغنية، سواء أكان احتفالًا بعيد وطني، أم فرحًا بفوز المنتخب، أو حميّةً للذود عن أراضينا. ترسخ الأغاني الوطنية معاني الولاء، وتعزز مشاعر التلاحم بين كافة أطياف المجتمع، وتحمل صوت الشعب إلى كل العالم، وتعكس الصورة المشرقة لوطن يستحق الفخر بمنجزاته. فوطن لا نغنّيه، لا نستحق العيش فيه. لهذا كانت الأغنية الوطنية دائمًا نداءً مواكبًا للأحداث، ومؤثرًا عميقًا في الذاكرة الشعبية، ومحرّكًا دؤوبًا للمشهد الفنّيّ. تسابق الشعراء على كتابة كلماتها، والملحنون على تأليف موسيقاها، والمطربون على الشدو بها. لكن للفنّ أسراره الخاصّة، التي يعجز حتى مبتدعوه عن إدراك أبعادها وتأثيراتها. فحتى وإن اكتملت عناصر الإبداع في معظم الأغاني الوطنيّة، ما بين أداء ولحن وكلمة، لا يمكن أن يتنبأ أحد بأسباب خلودها. لهذا نسي الكثير منها، وحجز بعضها مكانًا ثابتًا عبر السنين. فالأغنية التي تخرج صادقة من القلب تبقى في القلب، ولا يزيدها مرور الزمن إلا عذوبة وطلاوة.
من لا يعرف اليوم كلمات “وطني الحبيب” لصوت الأرض طلال مداح، وكلمات الشاعر مصطفى بليلة، التي يحفظها الصغير قبل الكبير؟ ومن منا لا يستعيد بمجرد ذكر اسمها ذلك اللحن العذب، الذي ظلّ يتردد في المحافل الوطنيّة على امتداد خمسين عامًا؟ كما لا زلنا اليوم ننتشي لأغنية “بلادي منار الهدى” للموسيقار سراج عمر، ومن كلمات الشاعر اللبناني سعيد فياض، والتي أصبحت النشيد الرسمي للدولة منذ منتصف السبعينيات، حتى استبدلت بالنشيد الحالي عام ١٩٨٤م. والملاحظ في الكثير من هذه الأغاني الخالدة فصاحة وجزالة قصائدها، ويكفي أن نتأمل كلمات الشاعر علي محمد صيقل: “وسمٌ على ساعدي نقشٌ على بدني .. وفي الفؤاد وفي العينين يا وطني” التي غناها الفنان محمد عمر. ولا تقل عنها بلاغة وجزالة رائعة محمد عبده ”فوق هام السحب”، من كلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن، التي لا زال يشدو بها فنان العرب في المسارح، ويردّدها معه الجمهور في مشهد طقسي بديع. فعمق كلمات هذه الأغاني، بفصيحها ونبطيّها، لم يشكل حاجزًا ضدّ تجسيدها لمشاعر كلّ طبقات الشعب، باختلاف خلفياتهم وثقافتهم، وأن يحسّوا بها تعبر بدقة عن مشاعرهم البسيطة والمعقدة تجاه هذه الأرض.
وبالحديث عن الألحان، لا يمكن أن نفصل الأغنية الوطنيّة عن إرثها الشعبي. فعند توحيد المملكة كان لفنون الأداء، مثل: العرضة، دور كبير في بث الحماس والانتماء. ولهذا حين دخلت الموسيقى إلى الأغنية الوطنيّة السعوديّة كان الإيقاع العسكريّ جزءًا أساسيًّا منذ بداياتها. وكلما كانت الألحان مأخوذة من الموروث الشعبيّ الوطنيّ، كانت أقرب إلى المشاعر، إذ تعزز الهويّة الوطنيّة والشعور بالمواطنة. فأغنية “نحمد الله جات على ما تمنى”، التي تغنى بها طلال مداح ومحمد عبده في أوبريت مولد أمة عام ١٩٨٩م، هي في الأصل فلكلور نجدي، ولهذا تعبر عن انتماء أصيل وعشق أبديّ لأرض الوطن. منذ أول أوبريت سعودي “يا دار حنا لك حرس” من غناء عبادي الجوهر، أصبحت الأوبريتات عنصرًا أساسيًّا في المهرجانات الشعبيّة. وصار لهذه المهرجانات - مثل مهرجان الجنادريّة - دور كبير في تطوير الأغنيّة الوطنيّة وترسيخها في الذاكرة الغنائيّة، إذ واكبت التطورات والقضايا وهموم الوطن المعاصرة. وأبلغ مثال على هذا مواكبتها لعاصفة الحزم وشحذها بالذخيرة الغنائيّة، بأغانٍ مثل “أبشري يا دار” و”إنت ملك” و”لك عهد جديد”، التي ترسخ وحدة وطنيّة معاصرة لا يمكن أن يبليَها الزمن، ومشاعر ولاء ثابتة في المنشط والمكره.