بقلم أحمد الملا: شاعر وسينمائي، مدير مهرجان السعودية السينمائي
كنت أعدّ حقيبتي للسفر إلى دبي، والمشاركة في اجتماع حول مشروع عالميٍّ يجري إعداده لنهاية العام 2020م، فوصلني خبر إقفال المطارات، فعدت أدراجي، لأدخل كما الجميعُ في مرحلة العُزلة.
قبل ذلك بأشهر، كان العالم يسير بشكل متسارع نحو ذروة الحركة الفنّيّة والثقافيّة، التي كانت - تقليديًّا - تُعطى درجة متأخرة على سُلّم الأولويّات. وكنّا قاب قوسين أو أدنى من بلوغ تلك الذروة، حيث كانت هناك أفكار كبرى قيد التنفيذ، كمفهوم القوّة الناعمة، وأثر الصُّورة الفنّيّة، واللغة المشتركة للفنون. فقد انتقلت تلك الأفكار في العام 2019م من أبحاث النُّخبة وكتبهم إلى مستوى الحوار بين الحكومات والشعوب، ما بشّر بثورة معرفيّة ساعدت في تعزيزها وسائط الاتصال الحديثة.
وكانت المملكة تشهد تحولًا كبيرًا في المشهد الثقافيّ والفنّيّ على طرفَي المعادلة، ليس فقط على مستوى المؤسسات، بل على صعيد المجتمع أيضًا. وكنّا في شهر مارس نعدّ لإطلاق "مهرجان الأفلام السعوديّة"... وحلّت هذه الكارثة الكونيّة!
أعلن أولًا تأجيل مهرجان البحر الأحمر السينمائيّ الدوليّ، واعتقدنا أنّ منتصف شهر أبريل سيشهد انحسار الأزمة، ويمكننا بالتالي الصمود. لكنّنا بدأنا نرى أنّ ذلك على المستوى الصحّي ليس ممكنًا، فأعلنّا تأجيل المهرجان كذلك. وتوقّف إنتاج العديد من الأفلام والمبادرات، التي أذكر منها مشروع "روم" لوزارة الثقافة، والدورة الثالثة من مهرجان الأفلام السعودية التي كانت ستعقد في مركز الملك عبد العزيز الثقافيّ العالميّ (إثراء).
لقد استفقنا من الصدمة الأولى، ونعيد الآن التعامل مع معطيات اللحظة الراهنة. إذ أعدنا صياغة ملف الدورة السادسة لمهرجان الأفلام السعوديّة، كي يتم إطلاقه بطريقة افتراضيّة. والآن - أكثر من أي وقت مضى - يجب أن نتذكّر كم هي الفنون صحّة للروح.
إنّنا نشهد اليوم اهتمامًا كبيرًا بالفنون كافة، البصريّ منها - وهو في الطليعة حاليًّا - والرواية، والتشكيل، وغيرها. كما تضاعفت مشاهدة الدراما كذلك، إذ أنهناك أفلام سعوديّة بدأت مشاهدتها على منصتي "نتفليكس" و"شاهد". وإذا التفتنا إلى الرواية، أو القراءة الأدبيّة، وجدنا ارتفاعًا في الطلب على الكتاب الإلكترونيّ بشكل كبير، وهنالك اهتمام كبير بالترجمة، والموسيقى، والغناء. كما أنّ هناك العديد من الأمثلة على تزايد الاهتمام بهذه الفنون من قبل مختلف مكونات المجتمع.
فقد رأينا مثلًا كيف توجّهت أنظار العالم إلى الفنان أندريا بوتشيللي عندما أحيى حفلًا متلفزًا من مدينة ميلانو الإيطاليّة. وكمثال أقرب إلى السعوديّة، كان الاهتمام الواسع الذي حظيت به لوحة الفنان زمان جاسم، التي ظهرت بشكل تلقائيّ في مكتب سمو وليّ العهد، وهناك أيضًا الاهتمام بلوحات عدد من الفنانين، مثل تغريد البقشي، وعبد الرحمن سيبو، وغيرهما.
وإذا نظرنا كفنانين إلى العزلة بطريقة إيجابيّة، وجدنا أنها منحتنا الوقت لإعادة النظر في المشاريع التي كنّا نعمل عليها، وإعادة صياغة النصوص، وتشكيل الإمكانات، وإدارة الإنتاج وتحويلها إلى مشروع صلب وقوي قابل للإنتاج في أية لحظة، وتحقيق نتائج أفضل مما كنّا نتوقّعه سابقًا.
الأمر الآخر الذي تعلّمناه في العزلة هو أهمية أن نبقى راسخين، لا في وطننا أو منطقتنا فقط، بل وفي دارنا الذي كدنا ننسى زواياه بسبب سرعة الحياة من حولنا. وهذا ما دفعني إلى كتابة قصيدة أعتذر فيها إلى كل من/ ما أهملته في الماضي.
العزلة علمتنا الكثير من الدروس، وأكثر ما تأثّرت به كان درس معنى الحرّية، على كل المستويات، الإبداعيّ، والمعرفيّ، والقناعات، يجب علينا إعادة النظر في بعض الأفكار المسلّم بها تقليديًّا، فنلتزم بها إذا تبيّنت صحّتها، لتكون زيادة خير على الخير، أمّا إذا لم يترسّخ مفهومها في ذهننا، فعلينا عندئذ البحث عن بدائل.
يجب أن يكون المبدع مبدعًا ولا يضع على نفسه القيود بنفسه. فهناك من التزم بما يظنّه سقفًا عليه العمل دونه، حتى "قصُرت" قامته، وأصبح إبداعه أقلّ مما يستطيع تقديمه. فلنفكّر بشكل أكثر شمولًا، لننطلق بحريتنا الإبداعيّة. وإن كانت هناك قيود خارجية، علينا أن نخرجها من داخلنا أولًا.
ما بعد الوباء
من الصعب التكهّن بما سيحدث بشكل دقيق. وأعتقد أنّ الفنون ليست بالضرورة ردّ فعل مباشرٍ على أيّة أزمة، فاستيعاب الأزمات الكونيّة يحتاج إلى وقت كي تنتج عنه حالة إبداعيّة فنّيّة عميقة ودائمة، إنما ليست استهلاكيّة أو مولودة في لحظة ما ومنتهية في اللحظة نفسها.
في المجمل، سيبقى مما تعلّمناه ما هو مفيد لنا في المستقبل. فهناك فنون تعزّز وجودها، ولن يصار إلى التنازل عن هذه المكتسبات، بل من المتوقع أن تكون لها حصة أكبر مما كانت عليه في السابق.
بالنسبة لصناعة الأفلام تحديدًا، من الجدير أن نأخذ في الحسبان "العين المدركة". فإذا شاهد الجمهور عددًا كبيرًا من الأعمال التي اكتسب منها ثقافة وقدرة على التمييز، فإنّ العين المدركة هي التي تستوعب وتتذوّق. أمّا العين غير المعتادة، فسوف تدهش فقط، لكنّها لن تتذوّق بشكل عميق.
أمّا بالنسبة للمنصّات الافتراضيّة، فأتوقّع الاستمرار في استخدامها بشكل كبير، نظرًا لفوائدها الجمّة. وهناك عدد من المهرجانات التي ستعرض أفلامها عبر هذه المنصّات، وفي ذلك جرأة كبيرة. ونحن في مهرجان الأفلام السعوديّة في طور استخدام هذه المنصّات أيضًا. ونتوقع أن تكون الدورة السابعة من المهرجان مزيجًا بين الوسائط الافتراضيّة وتلك الكلاسيكيّة.
هذه المقابلة بين إثراء و (مجموعة من الضيوف) هي جزء من سلسلة حوارات حول تأثير جائحة كورونا، ومستقبل الصناعة الإبداعية.