في العالم نوعان من البشر: هناك الأشخاص العاديّون، السّائرون في فلك المألوف، المنساقون وراء المنطق السائد، السالكون دروبًا مطروقة قبلهم، المنضوون تحت لواء السواد الأعظم من الناس، وهناك ثلّة قليلة يطلق عليهم: المبدعون والمبتكرون!
الحالة الإبداعيّة هي حالة موغلة في التعقيد، إنّها تُشبه أن يتداخل وميضان لتشكيل هالة من نور: وميضٌ يلتمع في ذهن إنسانٍ، يصطدمُ بوميضٍ آخر يمرّ من منطقة في الأفق لم تُكتشفْ بعدُ، ويحدث الانصهار بين الوميضين المتزامنين، في لحظة لا أحد يدري متى تأتي وكيف؛ مخلِّفًا وراءه بذرةَ فكرةٍ إبداعيّةٍ، تتوالدُ ذاتيًّا لينتج عنها العمل الإبداعيّ المجرد.. ذلك العمل الذي عندما: ننظر إليه، أو نلمسه، أو نسمعه، أو نشعر به، يأخذنا في دروبه الممتعة، و جماله الأخّاذ، وسحره الذي لا يقاوم، ونتفاعل معه تأثيرًا وتأثُّرًا، ثم نسمّي صاحبه مبدعًا.
حتى الآن ما تزال ميكانيزمات الإبداع بعيدة عن متناول المنطق، بعيدة عن الحساب والتقعيد والدِّقة، هذه اللحظة التي تنفجر فيها شلالات الإبداع، أو تتساقط زخاته، أو تهبُّ عواصفه، لا نستطيع قياسها، ولا يمكن توقُّعُها، أو تقييدها يإحداثيّات محدّدة؛ لأنّ منطق الإبداع بعيد عن التعقيد. الإبداع بسيط وقريب وفِي المتناول، ولكنّه في نفس الوقت بعيد عن الثوابت؛ ما كان المبدعون ليبدعوا لو أنّهم تمسّكوا بالثّوابت، أو انطلقوا منها، أو وضعوها في الحُسبان، قبل وأثناء هبوب الإبداع.
في الحقيقة، إن التنظير فيما يتعلّق بالعمليّة الإبداعيّة الذهنيّة، يجب أن يكون من داخل أسوار الحالة الإبداعيّة، وليس من خارجها؛ متزامنًا مع كل اللحظات التي يستثمرها المبدع في شحذ ملكته، وبناء المخزون الإبداعيّ لديه، وتصيُّد الفكرة من حيث يدري ولا يدري. ثم إنّ الحالة الإبداعيّة لا تأتي دائمًا كزائرٍ خارجيّ - بعد سباحة في الأفق البعيد، وتسَلُّقِ جبالِ المعنى، وسماوات المجاز - بل قد تنفجر ذرّة الحالة الإبداعيّة من داخل الحيّز الضيّق، المألوف، المعتاد، حين ينظر إليه المبدع من زاوية غير معتادة؛ بطريقة أخرى يمكننا القول: إن المبدع قد لا يضطر في كل غزوة إبداع أن يذهب بعيدًا؛ فقد تغشاه الحالة الإبداعيّة وهو يعبر فضاءات لم يُسبق لها، ولكنّها قد تغشاه أيضًا وهو يسير على طريق سُلك مرارًا، حين يسلكه بأسلوب مختلف.. إنه فعلُ الأشياء المعتادة بطرق غير معتادة؛ هنا قد نجد أحيانًا حلًا لمعادلة الإبداع.
"لكي تخترع، أنت بحاجة إلى مخيّلة واسعة وكومة خردة " بهذه المقولة يردم العالمُ توماس أديسون أيّة هوّة محتملة بين الإبداع والابتكار. أديسون الذي يعود له الفضل في مدِّنا بسلسلة من الاختراعات والابتكارات، يعيدنا في عمليّة الابتكار والاختراع إلى المشترك مع الإبداع، ألا وهو عنصر الخيال؛ فإذا انطلقنا من أنّ الإبداع مرتبط ارتباطًا كليًّا بــ: الأفكار المجرّدة، والرؤى، والأدب، والفلسفة، والفكر، والفن؛ فإنّ الابتكار هو قدرتنا على الإبداع بشكل ملموس، على الخروج بفكرة مبدعة ولكنّها ملموسة على أرض الواقع، يمكننا قياسها وملاحظة نتائجها بشكل مباشر.. إننا أمام مسارين متقاطعين ودائرتين متكاملتين، تتأسّسان على الخيال
بوصفه نقطة ارتكاز أوليّة، ولكن دائرة الابتكار أكبر قطرًا، إذ تحتوي داخلها دائرة الإبداع. كل الذين ابتكروا هم مبدعون بالفطرة.
كلما تقدّم الإنسان في مسيرته الكونيّة تفجّرت ينابيع الإبداع والابتكار أكثر وأكثر، وغمرت مساحاتٍ من خريطة الوعي الإنسانيّ، وأضفت على الكون حلّة جديدة من الجمال والمتعة، وسهلت الحياة بنقلها من الشظف إلى الترف؛ ولكننا عندما نتأمل كل تفاصيل الإبداع، منذ فجر التاريخ وبدايات خطو الإنسان، سنكتشف أنَّ كلَّ ابتكار، وكلَّ إبداع، كانا ذات يوم فكرةً مجنونةً غريبةً، خارجَ نطاق المنطق والمعقولِ، وصعبة التصديق.. وكانت لتموتُ قبل أن تولد لولا أخيلة المبدعين، أو تموت في المهد لولا ذكاء المبتكرين.