ذاكرة المدن
مبادرة "خارطة ذكريات الخبر" نموذجًا
يكتبها: عزيز محمد
روائي سعودي
تختلف ذاكرة المكان بطبيعتها عن ذاكرة سكانه، أي انطباعاتهم الذاتيّة عن المكان، والتي تتراوح بشكل نسبيّ بين شخص وآخر. فالذاكرة البشريّة - وإن كانت جمعيّة - محكومة بأن تكون في حالة انمحاء مستمر، وكلّما زادت الفجوة الزمنيّة بيننا وبين المكان الذي نستذكره، زادت الهُوّة بين صورة تلك الأماكن في ذاكرتنا وبين حقيقتها في الواقع. للمدن أيضًا ذاكرتها التي تتألف من مجموع ذاكرة أمكنتها. تتغير هذه الذاكرة عبر الزمن، لكن تبقى نواتها محفوظة ما دامت بيوتها وأشجارها وشوارعها ومعالمها، فتنمو مع تعدّد طبقاتها الحضريّة والطبيعيّة، وتضمحلّ مع زوال كلّ معلم فيها.
عبر حفظنا لذاكرة المدن فإنّنا نغذّي أيضًا ذاكرة سكانها، إنّما من منظور أكثر دقّة وشموليّة واستدامة. ولهذا دور كبير في تحسين جودة الحياة وحفظ هويّة المدينة وتناقل المعرفة المحليّة بين الأجيال، إضافة إلى منفعته الاقتصاديّة بعيدة المدى استثماريًّا وسياحيًّا. وسيكون من الخطأ الجسيم إهمال قيمة هذه الذاكرة المكانيّة، سواء كانت نفعيّة واقتصاديّة، أم جماليّة ومعرفيّة، باختزالها في عاطفة الحنين إلى الماضي؛ لكن هذا الخطأ للأسف هو ما يحدث اليوم.
تفرض ثقافة ما بعد الحداثة علينا أن نعيش في حالة من اللايقين تجاه محيطنا، أي أن نقبل بدهيًّا فكرة أن معظم الأشياء من حولنا معرضة للاستبدال بوتيرة ديناميكيّة متسارعة، تتجاوز حتى العمر الافتراضيّ للأشياء. وفي ظلّ سيادة الهُويّة العولميّة المعاصرة، التي تمحو الفروقات بين المدن، تصبح ثقافة المحو والاستبدال أكثر هيمنة، وأشدّ تهديدًا للذاكرة المكانيّة، حتى يمكن أن نشهد مدينتين مختلفتين في نفس الموقع في ظرف عقود قليلة، بعد أن استبدلت واحدةٌ سابقتها قبل أن ينجلي غبارها، دون أيّ استمراريّة معماريّة وحضريّة بين المدينتين. هكذا أصبحت مدننا بعد تحديثها أقرب إلى مدن عالميّة بعيدة، منها إلى تلك المدن التي قامت على أنقاضها. ويصبح الأمر أسوأ حين توضع بعض قرارات تطوير وإعمار المدينة بين أيدي شركات ومطوّرين عقاريّين، لا يقيمون وزنًا سوى للمنفعة الاقتصاديّة السريعة، فتتحول المدن وما بقي من ذاكرتها لآلات للسياحة الاستهلاكيّة غير المستدامة، وكلّ ما لا يقبل التسليع في هذه الذاكرة يتمّ إقصاؤه ضمن ما لا لزوم له.
على النقيض مما سبق، قدم فريق تطوّعي في الخبر مبادرة مجتمعيّة عبر إنشاء موقع إلكترونيّ بعنوان "خارطة ذكريات الخبر". يتضمن الموقع خارطة افتراضيّة للمدينة تحوي ١٤٠٠ معلومة، عن: البيوت، والمحلات التجاريّة، والمدارس، والمساجد، وحتى الكراجات التي وجدت في الفترة الممتدة ما بين عام ١٩٢٣ وحتى عام ١٩٨٠، أي منذ تاريخ إنشاء المدينة وحتى نهاية عهد الطفرة. وتكمن ضرورة توثيق هذه الفترة باعتبارها الأكثر عرضة للتلاشي، نظرًا لزوال العديد من ملامحها، وضعف أو انعدام الجهود التوثيقيّة خلالها، وبالتالي يتشكّل عبء إضافيّ لحفظ ما يمكن منها، واستعادته من الذاكرة الجمعيّة، وجمع ما تبقى منه في الأرشيف. تم جمع المعلومات من خلال إجراء لقاءات مع أعيان المدينة وسكانها، والاستعانة بالمراجع العلميّة والأدبيّة التي وثقت شيئًا من تاريخ المنطقة. كما يوفر الموقع مساحة للمشاركة المجتمعيّة، بإتاحة خاصيّة تعديل وإضافة المعلومات، وحتى طلب حذفها حفاظًا على الخصوصيّة. ويكشف حجم مشاركة أهالي المدينة، خلال الفترة القصيرة منذ الإطلاق التجريبيّ للمشروع، عن تعطّش مجتمعيّ للتوثيق، يستحيل اختزاله في معايير نفعيّة، ويتجاوز ظاهرة تسليع الماضي وتحويله إلى منتج استهلاكيّ في المطاعم، والمقاهي، والأسواق، أو كوسائل دعائيّة على لوحات الإعلانات.
تملك الخبر خصوصيّة حضريّة في المملكة، فقد كانت أول مدينة يتمّ تخطيطها بالكامل من الفراغ، بهدف توفير مدينة سكنيّة للموظفين المتوافدين إلى المنطقة بعد أن بدأت عمليات إنتاج النفط. ويعتبر حي الخبر الشماليّة موقعًا مثاليًّا لأن تنطلق منه هذه المبادرة، سواء لاعتبارات تاريخيّة أم حضريّة. فالتخطيط الشبكيّ للحيّ ينظم عمليّة التوثيق وفق استراتيجيّة هندسيّة، إذ توفر البلوكات والشوارع متناظرة الأحجام والمسافات شكلًا من المساواة على كلّ زاوية في الحيّ، مما يسهل عمليّة الحصر والإحصاء، ويحول دون أي هرميّة في الخارطة، وهذا ما يتوافق مع أهداف المشروع، الذي يطمح إلى تسجيل اسم كل عائلة في كلّ بيت في المدينة، وصولًا إلى تسجيل كلّ العائلات التي سكنت نفس البيت في سنوات مختلفة خلال الفترة المعنيّة بالتوثيق. ومن ناحية أخرى، فإنّ التوسع العمرانيّ الأفقيّ للمدينة عرّض هذا الحي بالتحديد للإهمال بعد أن هجره السكان المحليّون لصالح مناطق أحدث، مما يجعل ذاكرته المكانيّة أكثر هشاشة وعرضة للنسيان.
وما نطمح إليه قريبًا هو توسيع النطاق الجغرافيّ للمبادرة، ليتجاوز منطقة الخبر الشماليّة، ويشمل بقية الأحياء القديمة والمدن المجاورة، وتوسيع نطاق المعالم الموثقة لتشمل الميادين والمجسّمات الجماليّة وحتى الأشجار المعمّرة، وتغذية الخارطة بالمزيد من الصور والمقاطع، وإضافة تفاصيل موسوعيّة ومقاليّة عوضًا عن رؤوس أقلام. كلّ هذه الحاجات تؤكد أهميّة احتضان مثل هذه المبادرات الفرديّة والتطوعيّة من مؤسسات الدولة والشركات الكبرى في المنطقة، بما يتماشى مع حجم مسؤوليتها المجتمعيّة. وفي هذا الصدد كان احتفال أرامكو بالمشروع خطوة مهمّة، لمنحه المزيد من الموثوقيّة، من خلال تزويده بالصور والوثائق من أرشيفها. لكن الاحتفاء الحقيقيّ يكون عبر تدعيم المشروع بعمل مؤسسيّ طويل المدى، وتغذيته بجهود خبراء ومتخصّصين وباحثين؛ لتكوين مراجع موثوقة وموسوعيّة. والنقطة الأهمّ هي أن تخرج المبادرة من حدودها الافتراضيّة التي تحصرها في مجال التوثيق الإلكترونيّ، وتمتدّ إلى حفظ ذاكرة المدينة على أرض الواقع، من خلال صون ما تبقى من معالمها، وترميمها، وإحيائها، باستدامة تقاوم زوالها الوشيك.