كيف يبدو العالم من خلف نظارة سوداء؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى شاعريًّا أو مجازيًّا، ولكنه بالتأكيد يقسم الناس إلى قسمين: الذين يعيشون الإجابة بتفاصيلها، إن كانت لها تفاصيل، والذين لا يعرفون عنها شيئًا. ولا يكتفي السؤال بأن يكون بلا إجابة، ولكنه أيضًا يحرمنا من الانتقال إلى السؤال التالي: هل هناك فرق حقًّا بين من يعيشون خلف أسوار الظلام ومن يعيشون أمامها؟ ولو كنا أكثر جرأة وتصالحًا مع الذات فسوف نسألُ أيضا: في أي جانبَي هذه الأسوار نعيش حقًّا؟.
إن اعتماد الإنسان على حواسه الأساسية لهو أمر بديهي لا يلقي له بالًا، وفقده لأحدها هو عامل حاسم في حياة هذا الإنسان وتفاعله مع متغيرات الزمان والمكان. ولا نبالغ إذا قلنا إن حاسة البصر هي الرقم الأهم في هذه المعادلة، وإن أي محفل لأصحاب الإعاقة ستكون النجومية فيه للمكفوفين بلا منازع، فهم أكثر الناس تفردًا في رؤيتهم للحياة وإدراكهم لتفاصيلها ومواجهتهم لتحدياتها. كثيرًا ما تحجب الصورة الواضحة تفاصيل كثيرة تسكن بين طياتها حقائق الحياة، فماذا ستكون يا ترى نتيجة احتجاب تلك الصورة الخادعة نفسها؟ لن تكون سوى غوصٍ في عمق الحقيقة واستخلاصًا لجوهرها. لقد حَرَمَ فقدانُ البصر كثيرًا من الناس نعمة النظر إلى ظواهر الأمور، لكنه بالمقابل قدّم للبشرية بصائر مستنيرة تركت فيها بصمات لا تمحى.
من هوميروس، إلى طه حسين، وأندريا بوتشيلي، وراي تشارلز، مرورًا بالمعري ولويس برايل، وغيرهم، ممن فقدوا البصر فمَلؤوا الدنيا وشغلوا الناس، فدائمًا كان مكان المكفوفين محجوزًا في ساحات الأدب والفن، التي يبدو أنها ملت أصحاب الرؤى التقليدية، وغازلت أرواحًا نافذة إلى عمق الإبداع. ماذا يطلب الفن إذًا أكثر من روح لا ترى سواه "حرفيًّا"؟ كثيرًا ما كان إغلاق الأعين أسلوبًا يتبعه الفنانون للاندماج مع فنهم، والالتحام بخيالاتهم، ولكنهم سرعان ما يفتحونها فتطأ أرجلهم أرض الواقع من جديد، أما المكفوف فيكاد لا ينفصل عن عالمٍ ملؤه الخيال والسياحة في ملكوت الفكرة والرمز. ولعل هذا ما أعطى المكفوف أفضلية إذا ما وُضع في موضع المقارنة بغيره من المبدعين. يمكنك، على سبيل المثال، أن تعدد الأدباء العرب المعاصرين، لكنك حتما ستذكر طه حسين في مقدمتهم، ليس لأنه عميد الأدب العربي، ولكن اعترافًا بهذه القوة الكامنة في شخصيته والتي دفعت بأدبه بعيدًا في المقدمة.
لقد أصبح اليوم فنُّ المكفوفين مجالًا إبداعيًّا مستقلًا بذاته، فارضًا نفسه، له ضوابطه، وطقوسه وحتى جمهوره. فبالإضافة إلى الفنانين المبدعين بالفِطرة والموهبة، أو الذين اكتسبوا موهبتهم بالعمل وصقلُوها بالتجربة، بدأت الساحة تفتح أبوابها لفرق فنية متكاملة، فبعد أن امتلأت رفوف التراث الفني العربي والعالمي بأعمال خالدة لفنانين مثل: عمار الشريعي، وأندريا بوتشيلي، وسيد مكاوي، وراي تشارلز، وُلدت اليوم مجموعات فنية مثل "فرقة النور للمكفوفين" للعروض المسرحية، أو فرقة أوركسترا "النور والأمل" في وطننا العربي، أو فرق عالمية مثل "أولاد ألاباما المكفوفون" وغيرهم، توضح إلى أي مدى من الإبداع يمكن أن يصل فاقدو البصر إذا اقترنت في رؤاهم الإعاقة بالرسالة الإنسانية. ولقد مثلت عروضهم الفنية تزاوجًا فريدًا من نوعه، بين حرمان الحاسة وعطاء الروح، وإن المتأمل في هذا المشهد المتناقض بتعمق يجد نفسه يلامس حقيقة الإبداع، حيث الروح بشفافيتها هي منبع كل هذا الجمال، وحيث الأحاسيس لا تعدو أن تكون حواجز تحد من هذا الجمال وتصنع له سجنًا ماديًّا. ولعل بيتهوفن لم يخسر بصممه إلا الاستماع إلى آهات الإعجاب وعبارات التقدير.
لقد كان فقدان البصر دائمًا حاضرًا في ثقافة الإنسان وضميره الجمعيّ، ولنا في قصة "بلد العميان" لهربرت جورج ويلز تصور عميق لظاهرةِ العمى التي تتحول من الاستثناء إلى القاعدة. ولن نكون مخطئين إذا ما نظرنا إلى ما يقدمه المكفوفون من إبداع فنيّ من هذه الزاوية، فيكفي أن يتخذ أحدنا مقعده في عرض من عروض المكفوفين لينبهر بما يقدمون.