المقاومةُ الثقافيّةُ سلاحٌ وجمالٌ
ليس هذا أول تحدٍّ تواجهه الثقافة والفنّ، فعلى مرِّ العصور توالت الكوارث والأوبئة والحروب؛ فأُغرقت مكتباتٌ، وأُحرقتْ أخرى، ودُمِرت متاحفُ، و خُرِّبت منشآتٌ ثقافيّة، واختفت لوحاتٌ، و سُرقت آثارٌ، وتوفي فنانون وكتاب ومثقفون في مقتبل العمر.. وكان الفنّ قادرًا في كلِّ مرّة على التعافي وإعادة بناء نفسه.
ما يحدث الآن هو أكبر هجمة تطال عالم الثقافة والفنّ، إنّها تُشبه حروب الإبادة. فهل يصمد الفنّ؟ هل ستتمكن الثقافة من تجاوز الأزمة؟ وأيّة جهود يقوم بها عالم اقتصاد المعرفة لإخماد هذا الحريق؟
يصنَّف قطاعُ الثقافة والفنّ ضمنَ أكبر القطاعات المتضرّرة، إلى جانب قطاعات أخرى، مثل: البنوك، والطيران. شللٌ كليٌّ للحركة الفنيّة، وتوقّفٌ كامل لكلّ الأنشطة الجماهيريّة ذات الطابع الثقافيّ: إغلاقُ المتاحف، والمزارات التراثيّة، والمكتبات، والمسارح، ودور السينما، ومعارض الفنّ التشكيليّ.. باختصار جائحة الكورونا جعلت أكثر من 90% من فناني العالم غير قادرين على توفير نفقاتهم، وتغطية متطلبات حياتهم اليوميّة، مما جعل اليونسكو تعلن ما أسمته "حالة طوارئ ثقافيّة".
في جوٍّ مشحون كهذا كان على الفنانّين والفاعلين الثقافيّين أن ينظموا مقاومة مسلحةً، بالإيمانِ أن الثقافة والفنّ يجب أن يستمرا رغم كل شيء؛ وقد وقف المجتمع المدني والهيآت الأمميّة وبعض الحكومات خلف هذه المقاومة، وباتت جيوش الفنّ تشعر أنّ النصر حليفها، وأنّ الهزيمة غير مطروحة على طاولة الاحتمالات.
عندما استشعرت اليونيسكو الخطر المُحدق، لم تقف مكتوفة الأيدي، فأطلقت حركة "صمود الفنّ"، لتشجيع الفنّانين على الصمود أمام هجمات الأزمة، إنّها حركة تحاول في المقام الأوّل أن تجعل المهتمّين بالفنّ والمشتغلين في الإبداع يلتقون في مساحات افتراضيّة، للحوار، والنقاش، وتبادل الآراء، بغية التفكير في أحسن السبل من أجل البقاء، وتبادل الخبرات والتجارب؛ محاولة لنشر الوعي بالتأثير البالغ لجائحة كوفيد-19 في قطاع الثّقافة، ودعم الفنّانين أثناء الأزمة وبعد انتهائها.
في إطار حركة صمود الفنّ، نظمت اليونسيكو 43 نقاشًا في كل القارّات، حتى الآن، وهناك 16 نقاشًا مبرمجًا من بينها الحلقة النقاشيّة التي ينظمها مركز إثراء يوم 18 يونيو الجاري. وتجاوبًا مع هذه المبادرة تأسست حركة محلِّيّة منبثقة من حركة صمود الفنّ في 48 بلدًا حول العالم.
حوالي خمسين بلدًا حول العالم تدخلت حكوماتها بشكل مباشر من أجل الوقوف إلى جانب الفنّانين. والمهنيّين في قطاع الثقافة؛ ففي فرنسا - مثلًا - وضعت الحكومة خطة طوارىء لإنقاذ قطاع المكتبات، بتدخل مباشر من وزير الثقافة، الذي أعلن أن وزارته ستصرف حوالي خمسة ملايين يورو على المؤلّفين الذين تضرّروا، والمكتبات الصغيرة وبعض دور النشر. أما في الإمارات العربيّة المتّحدة فقد أطلقت الحكومة، ممثَّلةً في وزارة الخارجية برنامج "الفنّانين في السفارات"، اشترت بموجبه لوحات وأعمالًا فنّيّة لفانانين إماراتيّين لتزيّن بها سفاراتها في العالم، نوعا من الدعم الفنّيّ في مواجهة الأزمة.
والفنانون استعاضوا عن المساحات الفنّيّة الواقعيّة بأخرى افتراضيّه، واصلوا من خلالها تقديم أعمالهم، واستقطاب الجمهور، فتحوّلت منصات البث المباشر إلى قاعات حفلات موسيقيّة، ومسرحيّة، وتشكيليّة، وفلكلوريّة. وتعزز حضور نتفلكس وازداد جمهورها، كما ازداد عدد السينمائيّين الذين يعرضون أعمالهم من خلالها عوضًا عن صالات السينما الواقعيّة؛ وكثّفت المكتبات الكبيرة - عربيًّا وعالميًّا - العمل
على بيع كتبها افتراضيًا، وتنافست في طرق توصيلها بشكلٍ أسرع… إلخ.
المقاومة الثقافيّة والفنّيّة ليست فقط مقاومة من أجل التشبث بحياة الجسم الثقافيّ، وإبقاء روحه خفاقة، وقلبه نابضًا؛ بل إن دور المقاومة الثقافيّة مضاعف، ويذهب إلى أبعد من ذلك، حيث إنّ الفنّ أحد الأسلحة التي يستخدمها الإنسان في حربه ضد الفيروس الصائل.