كانت اللّغة العربيّة منذ ظهورها قبل عشرات القرون، مثالا للهُويّة الرّاسخة، الضاربة جذورها في عمق الأصالة. وكغيرها من اللّغات، كانت مرآةً عاكسة لبيئتها، وصورة تحاكي بدرجاتها اللّونيّة ألوان الجزيرة العربية بصحرائها وباديتها ونخلها، كما تحاكي بإيقاعها إيقاع خطوات الإبل الرّتيبة، الذي ارتفع على أساساته بنيان الشعر العربي، وتطبّعت ببداوته شخصيّتُه. لم تلبث هذه اللغة برصانتها التي بلغت حد الأرستقراطيّة، أن نزلت من برجها العاجيّ إلى مجالس الفنّ والموسيقى على يد الموشحات، هذا الفنّ الأدبيّ، أو الأدب الفنّيّ، الذي وُلِدَ في كنف الازدهار لينقل اللغة العربيّة، وليدة الصحراء وسليلة البداوة، نقلتها النّوعيّة الأولى.
وعلى الرغم من انفتاح اللّغة العربيّة على التّجديد، واتساع صدرها للمجددين، كانت الموشّحات تمرّدًا، لعلّه الأول من نوعه، على الشكل التقليديّ للشعر، تجاوز مجرّد تغيير بنية القصيدة ووحدة قافيتها، ليصل إلى مزج لغتها الفصحى باللهجة العاميّة، وسلخها عن أوزان العروض وضوابط القافيّة، وفي هذا يقول ابن خلدون: "وأما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنًّا سموه بالموشح، ينظمونه أسماطا أسماطا، وأغصانا أغصانا، يكثرون من أعاريضها المختلفة، ويسمون المتعدد منها بيتا واحدًا، ويلتزمون عند قوافي تلك الأغصان وأوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة …".
رغم هذا التأكيد التاريخي الذي ذهب إليه ابن خلدون وجمع كبير من المتخصصين، بأنّ الموشحات فنّ أندلسيُّ المنشأ، متعلّلين في ذلك بحالة الترف الأدبيّ والرقة في الطباع، التي عرفتها المجتمعات الأندلسيّة في تلك الفترة، مع ما صاحبها من تقاربٍ مع الثقافات الأوروبيّة المجاورة، وتأثرٍ بالغناء الشعبيّّ الإسبانيّ والفرنسيّ المتحرّر من القواعد العروضيّة الصارمة، ذهبت آراء أخرى إلى القول بأنّ النشأة الحقيقيّة للموشحات كانت من قبل المشرق، باعتبارها استلهامًا من المسمطات الشرقيّة وتطويرًا لها، ومنهم من يرى أن الموشحة الأولى في الأدب العربي كانت "أيها الساقي" للشاعر العباسي ابن المعتز، وإن شكك غيرهم من علماء الأدب في نسبة الموشحة إليه، ونقلوا روايتها عن الشاعر الأندلسي ابن زهر الحفيد، مما رجح النشأة الأندلسية لهذا الفن الأدبي. وبين هذا وذاك انتشرت الموشحات شرقًا وغربًا لتكوّن واقعًا أدبيًّا هو الحقيقة الوحيدة الثابتة هنا.
ولئن ارتبطت الموشحات في اللاوعي العربيّ بالتّرف والغناء، واقترنت بها صورة نمطيّة تؤثثها مجالس اللهو، إلا أنّها تبقى اتجاهًا أدبيًّا وفنيًّا مستقلًا بذاته، له خصائصه وضوابطه، وله رؤيته وفلسفته القائمة على فكرة تحرير الشعر من القيود الكلاسيكيّة وإنزاله إلى مستوى عامّة الناس، وتحويله من فنّ نخبويّ لا يتجاوز نجومه أصابع اليد الواحدة في كل جيل، إلى فنّ متجدّد يكسر الرتابة والملل، ويحرّر القافية والوزن، ويمضي إلى حد المزج بين الفصحى والعاميّة. ولئن ارتبطت بالموشحات كذلك شُبهة تمييع اللّغة العربيّة، إلا أنّها، على الجهة المقابلة، أسهمت في زخرفة هذه اللغة وتزيينها بجماليات التناظر والصنعة، وتوشيح ألفاظها بوشاح ترصعه جواهر البيان.
لم يكن غريبًا أن تحظى هذه الرؤية الجديدة بالقبول والاستحسان، فأصبح للموشّحات جمهورها الذي يتزايد يومًا بعد يوم، واكتسبت مكانة اجتماعيّة مرموقة، بالنظر إلى ما تزخر به من فنّيّات ودقّة في الأداء وجمال في الألحان، مع توليفة بين النغم واللفظ، يتبع فيها أحدهما الآخر، فيأتي النظم في كثير من الأحيان موافقًا للّحن، بشكل يجعل الضوابط العروضيّة في المقام الأخير، كما وصفه الشاعر ابن سناء الملك بقوله "الموشح: كلام منظوم على وزن مخصوص بقواف مختلفة". ولا يخفى أثر انتشار الموسيقى وخصوصيّة اللحن، بوصفه بابًا جديدًا من أبواب الإبداع الفنيّ، على تنامي شعبيّة الموشحات وسط المجتمع الأندلسي، وانتشارها بعد ذلك شرقًا نحو البلاد العربيّة والأوروبيّة.
وعلى خلاف الشعر التقليدي، ذي الشكل العمودي والقافية الموحّدة والأبيات المسترسلة، تتميز الموشّحات بتركيبة تتكون من: مطلع، وأقفال، وأبيات الدور التي تنظم بين القفلين وتتجزأ إلى أغصان، وتنتهي بالخرجة، وهي القفل الأخير من الموشح. لا تخرج الموشحات في نهاية الأمر عن كونها شعرًا لا يلتزم بأوزان الشعر الكلاسيكي، لكنها تشترك معه في الأغراض والمواضيع، التي تبقى قاسمًا مشتركًا بين مختلف الأنماط الأدبيّة العربيّة: كالغزل، والمدح، والهجاء،
لم تكن الموشحات مجرد طفرة وُلدت من رحم الرخاء، والترف، والتلاقح الثقافيّ مع الدول الأوروبيّة المجاورة، ولم تكن ظاهرة عابرة أو فقاعة ثقافيّة سرعان ما تختفي، وإنّما تحولت إلى واقع زاد في ترسيخه ميل النفس إلى ما يبعث فيها النشوة واللذة، وتوق الذائقة الشرقيّة إلى الطرب، مما أسهم في انتشارها من الأندلس، إلى المغرب العربيّ، ومصر، والشام، خلال القرن الثاني عشر. وقد عرفت الموشحات بدورها حركات تجديديّة، بدأت منذ أواسط القرن التاسع عشر، أسهمت في انتقالها من الأوساط الشعبيّة إلى القصور والمجالس الراقية، قبل انحسارها خلال النصف الأول من القرن العشرين، وظهور التيار التعبيري في الغناء، وتراجع الموشح إلى الزاوية، ليبرز إلى الصورة بين الحين والحين في شكل احتفاءات بالتراث، تحمل، ويا للمفارقة! لواء اللغة العربيّة الفصحى، في مشهد تطغى عليه اللهجات العاميّة في الشعر والغناء، وكأنّما قُدّر للموشح أن يخرج من حِمى اللّغة العربيّة ليعود إليها، أو أن يكون الاستثناء الإبداعيّ المتمرد في كل زمان ومكان.