السينما وصناعة الأفلام .. عندما قفز العالم نحو الصورة
في حضرة فنٍّ امتلك مفاتيح التأثير على كل جوانب الحياة على هذا الكوكب؛ يطول الحديث عن السينما وتتعدد الأوصاف التي يمكن أن تُخلع عليها، فهي الفن السابع في ترتيبه، والأول في تأثيره. وهي مالئة الدنيا وشاغلة الناس.
كانت الإطلالات الأولى للسينما منذ أكثر من قرن سببًا لتحول الانتباه إليها واعتبارها أداة استراتيجية ومركز جذب جديد للجماهير، وتحول العالم تدريجيًا أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى عالم تحكمه المرئيات التي خرجت من عباءة المسرح التقليدي المحصور في الزمان والمكان لتكتسح كل الفضاءات والحدود، وشاع الإدراك بأهمية أن تنبثق صناعة جديدة عمودها الصورة وأركانها المشهد والسيناريو والإخراج والإنتاج، وهو ما يعكسه الاهتمام الكبير بهذه الصناعة دوليًا، إذ قلما وجدنا دولة لا تسعى لإبراز سماتها الثقافية من خلال إنتاجها السينمائي، وقد يتراوح حجم الإنتاج وعمقه وتأثيره من دولة إلى أخرى، ولكنها في النهاية سمة مشتركة وقاعدة لا يشذ عنها أحد، وبينما يزداد الاهتمام بهذا الفن؛ يزداد انصياع الجماهير أيضًا لسحر الشاشة الكبيرة التي تبدو للمشاهدين كقمة جبل جليدي، تخفي وراءها عالمًا كاملًا من الكواليس والأوراق والأضواء والكلاكيت. إنها صناعة واعدة بمتغيرات ثقافية واجتماعية كبرى، تتسلل إلى اللاوعي الجمعي على يد بطل وسيم وممثلة حسناء وسيناريو محبوك ومخرج قدير.
ولطالما مثلت ثلاثية السيناريو والممثل والمخرج محاور العمل السينمائي المتقن من الناحية الفنية، وهو ما يعطي قيمة عالية لدور الشخصية في الفيلم الذي يعد امتدادًا لدورها في المسرح، باعتبارها مرآةً للمشاهد يرى فيها نفسه دون مساحيق تجميل. وإذا كان الحوار في الماضي هو الأسلوب المتبع لأخذ المشاهد في رحلة إلى أعماق النفس البشرية وأسرار الحياة، فإن هذا الدور اليوم يلعبه المخرج بما لديه من سيناريو وأدوات وفنيات. ومن هنا فرضت السينما نفسها وريثًا شرعيًا للمسرح، وحملت على عاتقها نقل رسالتها من التجمعات النخبوية الصغيرة إلى الجماهير العريضة في كل مكان.
اعتُبرت صناعة السينما أيضًا أداة لا يستهان بها في يد الحكومات، لتحقيق استراتيجيات سياسية واقتصادية. إن ميزانيات ضخمة تفوق ميزانيات بعض الدول، لم تكن لتُضَخ في هذه الصناعة لو لم تكن قادرة على تحقيق هذه الاستراتيجيات، ولنا في سنوات الحرب الباردة مثال واضح على تسخير السينما في معارك أيديولوجية لمحاربة المد الشيوعي من جهة والرأسمالي من جهة أخرى، ولا شك أن هذه الميزانيات المتدفقة في صناعة السينما لا تخلو بالتأكيد من غاية اقتصادية، فالسينما في نهاية الأمر صناعة كغيرها من الصناعات، لها مواد أولية وسلاسل إنتاج ومنتجات وتعليب وتسويق وكل ما يدور في هذا الفلك، بل يبدو من المثير للاهتمام أن لها أيضًا بنية تحتية عملاقة وأجورًا خيالية تجعل منها آلة تدور بسرعتها القصوى، لدرجة يمكن معها القول إن اقتصادًا لا تكون السينما أحد محاوره هو اقتصاد ناقص في أيامنا هذه.
وفي المملكة العربية السعوية تظهر صناعة السينما وهي تشق طريقًا متسارعًا نحو الأعلى، سواء من خلال الإنتاجات السينمائية التي حققت جوائز وحضورًا مشرفًا في محافل إقليمية ودولية مختلفة، أو تنمية هذه الصناعة بمبادرات تعمل على التثقيف والتأهيل والتطوير المستمر، وتحفيز المواهب واستثمارها وتهيئة كل عوامل النجاح والابتكار لتحسين قدراتها وتطوير أدواتها وصقل مهاراتها، وفي هذا السياق تظهر مبادرات مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) التي تضع من خلال برامجها أسسًا متينة لصناعة سينمائية واعدة. حيث يحظى المشاركون في ورش عمل إثراء ودوراتها المتخصصة بفرص كبيرة لتطوير مهاراتهم في مجالات متعددة كابتكار الشخصية وإدارة ميزانية الأفلام وصناعتها وعمليات الإنتاج والإخراج، وحتى مهارات الكتابة واستراتيجيات بناء الأحداث وصناعة القصة السينمائية، وهي جهود تأتي لإثراء المشهد السينمائي العربي بصفة عامة والسعودي على وجه الخصوص لترفعها إلى المكانة اللائقة بها بين حضارات العالم.