تتلامس الأقطاب المتشنّجة، فيتناثر الشرر، ثمّ تتباعد للحظات، قبل أن تعود للتصادم من جديد، في حلقة مفرغة لا نهائيّة، مفعمة بالدوبامين، والأدرينالين، والكورتيزول. ليست هذه غرفة عمليّات في مستشفى، أو مركز تحكّم في مصنع، أو محطّة لتوليد الطاقة، وإنّما هي لمحة من العقل البشريّ لإنسان ما، بعد الطفرة التقنيّة، وهيمنة منصات التواصل الاجتماعيّ، شبه الكاملة، على كل مفاصل حياته اليوميّة وتفاصيلها.

إنّ العَقد الحالي من القرن الحادي والعشرين، يُمثّل - بلا شكٍّ - عصر إعادة تركيب الإنسان من جديد. يحدث هذا في ظلّ التمدّد المتواصل لمناطق النفوذ الرقمي، وانحسار ما كان يعرف سابقًا بأنماط الحياة التقليديّة، حيث الإنسان هو الإنسان، بنفس تركيبته الفيسيونوميّة، والنفسيّة، والعصبيّة، التي طبعته على مرّ العصور. لقد هيمنت التقنية الرقميّة بواسطة ذراعها الناعمة - والمتمثّلة في منصّات التواصل الاجتماعيّ - على العالم اليوم، وحوّلته إلى غرف دردشة، لا يعيش فيها الإنسان في الواقع، ولكن داخل فقاعة عاكسة للذات، وجد نفسه محصورًا فيها بفعل تقنيات رقميّة معقّدة، صُمِّمَت لخلق تجربة إدمانيّة تسعى لإبقائه ملتصقًا بشاشاتها طوال الوقت.

يُمكننا، بلا مبالغة، وصف منصات التواصل الاجتماعيّ بأنّها آلات شديدة التعقيد، تعمل بآليات دقيقة على الاحتفاظ بالمستخدمين في تطبيقاتها، وتستخدم أدوات مصممة لإبقائهم نشطين لأطول فترة ممكنة. هذه الآليات والأدوات تمرُّ حتمًا عبر التلاعب بالعقول، وتغيير ديناميكيّتها، إذ توفّر مكافآت فوريّة مقابل القليل من الجهد المطلوب، وتدفع العقل إلى إعادة تركيب نفسه، ليجعل صاحبه يرغب في هذه المحفزات والتفاعلات، ويبحث عن المزيد من الإثارات العصبيّة بعد كلّ تفاعل، لتنجح التقنية في نهاية المطاف في إعادة تركيب نظامنا العصبيّ، وفي جعل العقول مثارة بشكل غير مسبوق. 

تعمل آليات المشاركة والتفاعل على سجن المستخدم، في سعي دائم بين: دوبامين المكافآت، وأدرينالين الخوف من فقدانها. إنّ الإدمان هو كلمة السر هنا وجوهر الموضوع، ولشدّ ما يتشابه مشهد مدمن المخدرات، وهو لا يرى غير جرعة الكوكايين، مع مشهد أناس لا يعيشون الأحداث من حولهم بقدر ما يركّزون على التقاط صورهم ونشرها على منصات التواصل، ثم الغوص في متاهة التشتت بين انتظار التفاعلات والبحث في صور الآخرين. هذا التشابه لا يكتفي بأن يكون ذا صبغة بلاغيّة مجازيّة، وإنّما يتعداه إلى الحقيقة العلميّة المثبتة، عندما كشف فحص أدمغة المدمنين على وسائل التواصل الاجتماعي عن ضعف في مناطق مماثلة لمناطق الضعف لدى مدمني المخدرات، لا سيما التراجع الواضح للمادة البيضاء في المناطق الخاصة بالمشاعر، والانتباه، واتخاذ القرار. يحفز استخدام وسائل التواصل نفس المناطق الدماغيّة المتعلّقة بالنشوة، والدوافع، والعواطف، ويتضاعف هذا التحفيز عند الإدراك بوجود جمهور، فتكافئنا أجسامنا فيسيولوجيًّا للتحدث عن أنفسنا عبر المنصات الإلكترونيّة. وقد وجد العلماء، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسيّ، أنّ مركز المكافأة في عقول الناس ينشط أكثر بكثير عندما يتحدثون عن أنفسهم وآرائهم الخاصّة. 

ولعلّ الخطر الأكبر الذي يمثله الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعيّ، يتمثل في تأثيرها على دينياميكيّة العقل وطريقة تفكيره وتعامله مع الأحداث، إذ تشجع هذه الشبكات على التفكير السريع والسطحيّ،  الذي من شأنه أن يؤدي، على المدى البعيد، إلى السطحيّة المعرفيّة والأخلاقيّة، وإلى انخفاض القدرة على ممارسة التفكير التأمليّ. إذ يجد العقل البشريّ نفسه اليوم في بوتقة من التفاعلات السلبيّة والإيجابيّة السريعة والمتعاقبة بشكل لم يتعود عليه من قبل، بل ولم يصمم للتعامل معه، وإنّما صُمم ليعيش اللحظة بكلّ أحاسيسها، ويتوقف عندها، ويستشعر تفاصيلها، ويعرف حدود ابتدائها وانتهائها. عندما يقرأ الإنسان خبرًا في صحيفة، فإنّ انتهاء الخبر يعطي إشارة توقف طبيعيّة إلى الدماغ، يأخذ بعدها فرصته كاملة للتأمل والتحليل والإدراك. لقد أصبحت هذه الطبيعة الفطريّة اليوم ترفًا من الماضي، في ظلّ التعاقب السريع لأخبار الفيسبوك أو تويتر، بفضل التمرير المتواصل الذي يجعل الاستهلاك لا نهائيًّا، ويجعل العقل في تشتت غير مسبوق، بين الأخبار المفرحة والأخبار المحزنة، يفضي به في النهاية إلى تبلد في الذهن، وخلل في إدارة المشاعر والأحاسيس.

يقف مستخدمو التقنيات الرقميّة الحديثة اليوم على مفترق طرق، بين الاستفادة منها وتحسين جودة حياتهم وتيسير شؤونها، وبين الانغماس في تفاصيلها، والانسياق مع تيارها في اتجاهات لا تلوح مآلاتها مطمئنة. ويجد العقل البشريّ، في هذا المفترق، نفسه أمام تحديات تصل إلى درجة الوجوديّة، تفرض عليه البحث المحموم عن توازن رقميّ يتيح له السير على ذلك الخيط الرفيع، قبل أن تعصف به رياح الشبكات الاجتماعيّة خارج مشهد، لا مكان فيه لمن ينزوي في خانة الاستهلاك الإدمانيّ، داخل فقاعة، يحول بينه وبين رؤية الحقيقة الفطريّة للعالم من حوله.

 

المدونات المتعلقة

For better web experience, please use the website in portrait mode