تكتبها: دينا أمين
الرئيس التنفيذيّ لهيئة الفنون البصريّة - وزارة الثقافة
مبنى وزارة الثقافة في الدرعية أول عاصمة للدولة السعودية والمسجلة عام ٢٠١٠ ضمن مواقع التراث العالمي في اليونسكو
بعد ثلاثين عامًا ـ تقريبًا ـ من توحيد المملكة العربيّة السعوديّة، وتحديدًا في أواخر السبعينيات الهجريّة، أدرجت التربيّة الفنيّة ضمن المناهج الدراسيّة، وهذا التاريخ هو توقيت ميلاد الحركة البصريّة في المملكة، وتشكيل بداياتها، وأول خطواتها المدعومة بقرار حكوميّ، في نقلة نوعيّة، نتجت عن وعي جديد تجاه التعامل مع فنّ الرسم، والانتقال به من مجرد الموهبة الفرديّة، إلى التوجه المعرفيّ التأسيسيّ القابل للتعليم، والممارسة، واكتساب المهارات، وخلال ستين عامًا تالية تحققت قفزات وتطورات في الاهتمام بالفنون البصريّة، توّجت بقرار مجلس الوزراء مطلع العام 2020م بإنشاء هيئة الفنون البصريّة تحت مظلة وزارة الثقافة.
تسعون عامًا منذ توحيد المملكة العربيّة السعوديّة، وكل يوم والنهضة الفنيّة تصنع تنافسيّة تؤثر في المشهد البصريّ، وإن كانت "الأذن تعشق قبل العين أحيانًا" كما قال الشاعر بشار بن برد، إلا أنّه غالبًا ما تكون العين نافذة التذوق وبصيرة القلب، خاصة إذا ما سلّمنا بأنّ حاسة البصر تحفزها الألوان، والأشكال، والرسومات، بتمازجها، وتفردها، وحركتها، وحتى بالمعنى المختبئ خلف تفاصيلها، لتستقر في الذهن مشبعة بالمشاعر صورةً ذهنيّةً، ولحظةً تقاوم النسيان.
وفي الواقع توجد علاقة تبادليّة بين أداة البصر والمرئيّ، طرفان يخلقان ـ بتفاعلهما معًا ـ حالة من التصور، واللافت في الفنون البصريّة أن لغة التواصل البصريّ عميقة، وتنسجم مع فلسفة الانطباع الأول وتربكها، لأنّ كل صورة تخضع لردة فعل مبدئيّة، ولاحقًا تصنع فكرة أشمل، إنّها عمليّة مركبة من عدة مراحل، مثلها مثل مراحل صناعة الصورة، ورسم اللوحة، والتي تتشكل في الذهن عند التقاطها أول مرة، وتصير منتجًا مختلفًا بعد ضغط زر العدسة في الكاميرا، أو عند وضع الخطوط الأولى من الفرشاة على ورقة الرسم. ولذلك يمكن في الفنون البصريّة القول بأنّ الجمود في اللوحة والصورة لا يعبر عن السكون، بقدر ما يثير حيويّة يصنعها المتلقي وزاوية الرؤية.
تأثير الفنون البصريّة تجاوزَ مبكرًا مرحلة الترف إلى الضرورة، وتحوّلت من أداة تعبير ومتنفس إلى هُويّة ودلالة، وانتقلت من اجتهادات فرديّة إلى مدارس متخصصة وأنماط مختلفة، وتطورت لسلسلة من التراكم الثقافيّ، إلى حدٍّ وصلت فيه الفنون البصريّة اليوم إلى مكانة الوسيط الأمين بيننا وبين العالم.
وبالتوازي مع رحلة الفنون البصريّة، بمختلف أشكالها: الرسم، والتصوير، والنحت، والتطبيقيّة منها والحرفيّة، منذ نشوء الفكرة وحتى تجسيدها في منتج ملموس، عاشت الفنون البصريّة في بلادنا قصة من التحوّلات على جانبين، أحدهما يتعلق بتأثير مادة التربيّة الفنيّة، والآخر يتعلق بمساهمة القطاعات الحكوميّة الأخرى. أما بخصوص مادة التربيّة الفنيّة، فإنّ البداية جاءت مع إدراج الرسم ضمن منهج الدراسات الثانويّة عام 1364هـ، ومع الأنشطة الفنيّة في مدارس التعليم العام، عبر النقل، والمحاكاة، ورسم المناظر الطبيعيّة، وبعض التركيبات الهندسيّة، والزخرفيّة، ومزج الألوان، ثم توالت الخطوات إلى أن تأسس معهد التربيّة الفنيّة في الرياض، مؤذنًا بانتقال الفنون البصريّة إلى مستويات تنظيمية أعلى.
وفي الجانب الآخر، فإنّ هذا الدور التعليميّ المؤسسيّ ساندته جهود الرئاسة العامة لرعاية الشباب وأنديتها، في مناطق المملكة ومكاتب رعاية الشباب لتنشيط الحركة الفنيّة، وتمثل ذلك في حضور مميز محليًّا ودوليًّا، ومسابقات ومعارض متنوعة بين الشباب والنخبة، ومعارض للمقتنيات، وأخرى للفنّ المعاصر، رافقها تأسيس جمعيّات ومؤسسات مهتمة بالفنون البصريّة، باختلاف اتجاهاتها. وبفضل إسهام المعارض، والفعاليات، والأمسيات الخاصة، والجهود الفرديّة لرواد الفنّ السعوديّ، في الدفع بالحركة الفنيّة إلى مساحات أكثر تجريبًا، وابتكارًا وتطورًا. وقد وصلنا اليوم إلى مرحلة متقدمة في التعاطي مع الفنون البصريّة، والاستثمار فيها، مع المحافظة على بصمتنا الخاصة وهُويتنا السعوديّة في كل منتجاتنا، وأدوات تعبيرنا، وظهورنا، وجميعها تأتي من روح وهُويّة وطننا.
إنّ كلّ تعبير ثقافيّ هو تعبير وطنيّ بالدرجة الأولى، يعكس المبدع من خلاله الحالة الشعوريّة التي يُحسّها في لحظة ما، فيأخذ هذا التعبير مكانه تلقائيًّا في تاريخ الفنّ، ويُشكّل في النهاية تاريخًا وطنيًّا بامتياز. لذلك فعندما نهتم بالفنون البصريّة، ونسعى لخدمتها، ودعم كل منسوبيها، من خلال هيئة الفنون البصريّة، وتحت إشراف وزارة الثقافة، فذلك لأن هذه الفنون تأخذ طريقها في نهاية الأمر نحو تشكيل ذاكرة التاريخ، وتستقر هناك باعتبارها ذاكرة بصريّة في إطار وطنيّ أخضر، اشترك في بنائها جميع مبدعي ومبدعات المملكة العربيّة السعوديّة.