لوحة "A Bigger Splash" للفنان ديفيد هوكني عام 1967،
تمثل هذه اللوحة الشهيرة أحد أعمال فنّ "البوب آرت" الذي سجل استمرارًا في تطوير مجال الرسم، وكسر جمود القواعد التقليديّة. تم رسمها بأسلوب الإكريليك على القماش.
في هذه اللوحة التي تتباين فيها درجات الألوان الباردة والحارة، وتتباين فيها اللحظة الخاطفة بالزمن المتوقف، يطرح الرسام الإنجليزي المعاصر ديفيد هوكني ـ المعروف بالمزج بين التجريد والتشكيل وفنّ البوب في لوحاته ـ رؤيته الفنّيّة والعمرانيّة، ويضع لمسات تجديديّة في الشكل والمضمون، لتكون القطعة الثالثة في سلسلة لوحاته الثلاث: "دفقة صغيرة" (1966)، و"الدفقة" (1966)، و"دفقة أكبر" (1967).
سافر ديفيد هوكني إلى كاليفورنيا سنة 1963م بعد تخرجه في المعهد الملكيّ للفنون بلندن، وهناك أُعجب بطقسها المشمس، ونمطها الحياتي المتميّز بالاسترخاء والشاعريّة، ولاحظ أن انتشار المسابح في بيوتها ليس علامة بذخ، بل ممارسة حياتيّة يوميّة. هذه التركيبة، التي تمتزج فيها: اختلافات المناخ، وأنماط الحياة، وأساليب التفكير، مع نزعة التجديد الفنّيّ، والثورة على الأنماط السائدة، التي ما فتئ هوكني يظهرها بإعادة توليد المعنى للأشياء المألوفة، كان لها أبلغ الأثر في ظهور هذا العمل الفنيّ بهذه الخصوصيّات الفريدة. كانت الطبقة المسطّحة الرقيقة جدًا من الطلاء الملصق تعطي انطباعًا قريبًا من التصوير الفوتوغرافيّ، كما كان رفضه الواقعيّة يظهر في أسلوب معالجة اللون، وفي التفاصيل الصغيرة التي تصب في وادي التجديد والابتكار.
هل يمثّل "تأطير اللوحة" جزءًا من عمليّة تقنين الفنّ - والرسم تحديدًا - ليصبح مشروعًا، بحيث يسع بعد ذلك محاكمة أي عمل مطروح إلى تلك القواعد الفنيّة التي اشتهرت وتواطأت عليها الأذواق؟، بحيث تُحدد فنّيتها على معيار اقترابها أو ابتعادها عن هذه القواعد والأسس، ومن بينها الإطار؟، وبالمقابل فإنه بالتمرد عليها يتحقق الاستبعاد من وصف الفن، حتى لو توافرت لديه شروط العمل الفنيّ الأوليّة، من: بث التأثير في الناس، واستقطاب إعجابهم، ودهشتهم، واستيعاب المعنى الذي يقصد إليه الفنان، بحيث يمد جسورًا من التواصل الوجدانيّ بين طرفي الرسالة الفنيّة المموضعة في العمل؟.
شجعت مرحلة ما بعد الحداثة، الكثير من مجالات وقطاعات الفنّ على مقاومة السائد، وتحرير التقاليد الفنيّة والتعبيريّة، واجتراح أشكال وفضاءات مغايرة وأكثر جرأة، في استجابة متزامنة لمرحلة جديدة نهاية فترة الستينيّات الميلاديّة، وبزوغ مرحلة السبعينيّات من القرن العشرين، تحضّ على ابتكار الذوات، والخروج عن المألوف، وإعادة الاعتبار للخيال الحرّ واللامحدود. وشكلت مدرسة الانطباعيّة أو التأثريّة (بالإنجليزيّة: Impressionism) خلال القرن التاسع عشر باكورة الانقلاب على الشكل الكلاسيكيّ للفنّ، وارتبط أسلوبها الفنيّ بخطوة تبدو عاديّة، لكنّها تجسد تصميمًا على معاندة السائد، إذ خرج الفنّانون من المرسم، ونفّذوا أعمالهم في الهواء الطلق، لنقل الواقع أو الحدث من الطبيعة مباشرة، وكما تراه العين المجردة، بعيدًا عن التخيّل والتزويق.
حسب القواعد التقليديّة المتبعة، فإنّ "التأطير" وسيلة فعالة لحصر الموضوع المنتقى من الطبيعة وجذب الانتباه إليه، ويتكون من أحد العناصر المرسومة في مقدمة الصورة: كالأبواب، والنوافذ، والقناطر، والأشجار، وقضبان الحديد المتعامدة. وذلك رغم أن الموضوع هو جوهر الصورة، وما الإطار إلا عامل مساعد من عوامل تكوينها، بما يستلزم "الفصل الواضح بين الإطار والموضوع الأساسيّ، وتجنب الأطر المعقدة، وتحاشي الخلط الناجم عن التشابه في الأضواء والظلال".
لم يتعرّض الفنّ الحديث في البداية لمسألة الأسلوب، ولكن تركّزت اهتمامات الفنّانين حول الموضوع والمضمون، فتحوّلت رؤية الفنّانين إلى المناظر الطبيعيّة ومظاهر الحياة اليوميّة بدلاً عن التركيز على الموضوعات التاريخيّة والدينيّة، وهذا التحرر من الأسلوبيّة في الفنّ كان له من الأهميّة حيث أعطى الفرصة للفنّانين لتخطي المقاييس الكلاسيكيّة الجامدة، لينطلقوا إلى الواقع بوصفه تجربة مَعِيشة في الفنّ. هذه التجربة التي قادت الفنانين إلى الاستنباط، وإبداع المتقابلات التشكيليّة، لجعل المتخيّل مرئيًّا كما في أعمال السورياليّين، كما كان من أهم المفاهيم المرتبطة بالفنّ الحديث أي فكرة التجريب Euperiment حيث أصبح الفنّانون يبحثون من خلال تجاربهم الإبداعيّة عن خصائص جديدة للفنّ، من منطلق أنّ الفنّ يخدم الفنّ.
عبر لوحاته الثلاث ـ التي اتّخذت من دفقة الماء ورذاذه المتناثر جوهرًا، وسط ديكور يتراوح بين عناصر من الطبيعة، وأخرى من حياة الإنسان ـ تدرّج هوكني بالفكرة، متنقّلًا بين: درجات اللون، وعناصر الفراغ، وهندسة المشهد. ورغم التباين الظاهر بين العناصر المرئيّة للوحات، إلا أنّ التباين الحقيقيّ الذي شغف به هوكني وخلّده في هذه القطعة الفنّيّة، هو التباين الخفيّ بين اللحظة الخاطفة والزمن المتوقف، وبين الماضي والحنين إليه وارتباطه بالطبيعة، والحاضر ببهرجه، وألوانه الصاخبة، ولمساته المعاصرة. تتميز اللوحة الأولى (A little splash) بتصميم للمسبح، إذ أخرجه في صورة أقرب إلى نهر أو بركة طبيعيّة، بخطوطه المنحنية ـ والمنظر الطبيعيّ الذي يحفّه، وبتصميم قديم وموحٍ بالحنين، للبيت بسقفه المائل الذي يتنافى مع طابع البيوت في كاليفورنيا بطقسها الحار قليل المطر. اللوحة الثانية توحي بالابتعاد أخيرًا عن الماضي، والخوض في التفاصيل الصارمة للحاضر، عبر الخضوع للأشكال الهندسيّة المنتظمة، وبُعد المسافة عن المناظر الطبيعيّة، وخلق فضاء ستبدده اللوحة الثالثة، بإبقائها فقط على لوح الغطس رمزًا وحيدًا لعمق الفضاء. ولا ينسى هوكني أن يضع رؤيته لكاليفورنيا المتحوّلة إلى نسخة أكثر صخبًا وأضواء، معتمدًا على اختيار ألوان أكثر إضاءة من اللوحتين السابقتين، وعلى تأثيث المشهد بديكور يُحيلنا إلى استحضار مظاهر الحضارة الكاليفورنيّة الحديثة، كالكرسيّ المتقاطع الذي يستخدمه مخرجو السينما في هوليود، وانعكاس الأبنيّة الحديثة على زجاج النوافذ، بعد أن كانت تعكس الربوة والعشب في اللوحتين السابقتين.
استمرّت عمليات كسر القوالب الفنّيّة، وتوليد المدارس التي تحرك الأنماط من داخلها، وتخرج عن إطارها، ويؤثر إيقاع البيئة المحيطة في حركيّة الفنّ بأشكاله المختلفة، لكنّها بالمحصلة تصبّ في استحالة الإبقاء على مكوث الفعل الإبداعيّ في حالة خاملة، أو الانخراط في ذهنيّة الحرفيّ الناسخ الذي يعيد نفسه دومًا. وتتبلور قيمة التجربة الفنيّة في تزخيم الحركة الدائبة، والتفكير في أدوات جديدة لتقديم مشاريع فنّيّة أو منجزات جماليّة، تواكب جميع التحوّلات، وتستلهم منها، تتأثر بها، وتؤثر فيها، والبحث المستمر عن صياغات جديدة، وتقنيّات مقاومة للتنميط من خارج المعجم الكلاسيكيّ.
ملخص للتصميم:
شجعت مرحلة ما بعد الحداثة، الكثير من مجالات وقطاعات الفنّ على مقاومة السائد، وتحرير التقاليد الفنيّة والتعبيريّة، واجتراح أشكال وفضاءات مغايرة وأكثر جرأة، في استجابة متزامنة لمرحلة جديدة نهاية فترة الستينيّات الميلاديّة، وبزوغ مرحلة السبعينيّات من القرن العشرين، تحضّ على ابتكار الذوات، والخروج عن المألوف، وإعادة الاعتبار للخيال الحرّ واللامحدود. وشكلت مدرسة الانطباعيّة أو التأثريّة خلال القرن التاسع عشر باكورة الانقلاب على الشكل الكلاسيكيّ للفنّ، وارتبط أسلوبها الفنيّ بخطوة تبدو عاديّة، لكنّها تجسد تصميمًا على معاندة السائد، إذ خرج الفنّانون من المرسم، ونفّذوا أعمالهم في الهواء الطلق، لنقل الواقع أو الحدث من الطبيعة مباشرة، وكما تراه العين المجردة، بعيدًا عن التخيّل والتزويق.