النهضة الجديدة للثقافة والفنون السعودية
علياء فتوح مديرة "معرض أثر" للفنون تناقش المشهد الجديد للثقافة والفنون السعودية لما بعد 2020
قدمت علياء فتوح إلى المملكة العربية السعودية في شهر يناير من العام الماضي لتتولى مسؤولية إدارة معرض أثر - إحدى المؤسسات الرائدة في المملكة للفن المعاصر. ولأكثر من عقد، أخذ معرض أثر على عاتقه مسؤولية المساعدة في بناء المشهد الفني السعودي المعاصر من خلال توفير منصة يُمكن للفنانين الالتقاء والتجمع وعرض أعمالهم فيها، ووضع التعليم في الفنون في مقدمة الجهود المبذولة.
حققت الفنون في المملكة العربية السعودية قفزاتٍ كبيرة وسط التحولات الأخيرة في المشهد الثقافي في المملكة، وشهد العام الماضي الذي انضمت فيه علياء إلى معرض أثر تأسيس وزارة الثقافة، التي ساهمت بازدهار الفنون والثقافة بأشكالها المختلفة بشكلٍ لافت في المملكة، من تنظيم الفعاليات والحفلات الموسيقية والمهرجانات والأنشطة الترفيهية، إلى جانب ذلك، شهد عام 2019م فعاليات وأحداث أساسية في تعزيز مهمة معرض أثر وهي: تنشيط استراتيجية الفن المعاصر طويلة المدى، فضلًا عن انتشار برامج الإقامة والمنح الدراسية والمعارض، وجاء عام 2020م ليهيئ مواصلة دفع هذا النجاح نحو المستقبل، نحو حقبة جديدة لترسيخ عالم الفن الحديث.
لكن مع توافد الأفراد من حول العالم ومنهم علياء لاستكشاف الفن السعودي، جاء جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) لتفرض وضعًا جديدًا كليًا يتطلب من دور الفنون والثقافة في جميع أنحاء العالم التكيف مع الظروف الجديدة، وعلى الرغم من تركيز العديد من الخبراء في مناقشاتهم على تأثير فيروس كورونا، ترى علياء أن التركيز يجب أن يكون على إيجاد حلول الاستجابة الفعالة.
ونوع الاستجابة التي رأتها علياء من الفنانين أنفسهم توضح ما تعنيه بالتحديد: "هناك بعض الجوانب الإيجابية لهذا الوضع الجديد المفروض علينا، أهمها توفر الوقت للفنانين للتفكير في مقترحاتهم ومشاريعهم وتطويرها بطريقة أعمق لتضمن معنى أكبر، مما يوفر مساحة أوسع لهم للبحث والتجربة والخطأ، وهذه كلها عناصر كنا نغفل عنها، لكنها ضرورية جدًا لنجاح أي مشروع، كذلك هناك استجابة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وهي الشعور المُعزز بالمجتمع بين المبدعين - وهو مفهوم لا يتجزأ من مفاهيم معرض أثر".
والوضع الذي تصفه علياء هو تجمع الفنانين في المشهد الفني في المنطقة والتعاون والمحادثات الجديدة بين الكيانات التي كانت مفككة سابقًا. إن تسليط الضوء على نقاط التطور في المشهد الفني في المنطقة يخلق فرصًا لم تكن موجودة من قبل، وتُظهر صناعة الفن بوصفها نهجًا أكثر عمقًا مقابل النهج التفاعلي التقليدي، مع تحولٍ ملموس في الإطار المفاهيمي.
بينما تتصدر الحلول والبدائل الرقمية في طليعة طرق الاستجابة، تواصل علياء التأكيد على أهمية العنصر الملموس عند استكشاف عالم الفن: "كمعرض متميز بتاريخنا وموقعنا الجغرافي، أؤمن بشدة بأهمية الوجود المادي فيما نقوم به. وما يزال امتلاك مساحة فعلية لعرض الفنون أمرًا مهمًا وذا صلة وثيقة لأنه يحتوي على مكون تعليمي، ونظرًا لأن ليست كل الوسائط قابلة للتكيف مع المشاهدة الرقمية وعبر الإنترنت، فالأشياء التي تتعلمها خلال زيارتك لأي معرض ليست متاحة دائمًا على الإنترنت". تُشير علياء هنا إلى الأسئلة التفاعلية التي تُطرح على مشرفي المعارض الفنية، والمقابلات مع الفنانين، ومساحة العفوية للتعبير، والتي جميعها لا يمكن أن تحدث بسهولة على المنصة الرقمية".
ومع هذا كله، تمتلك علياء عقلية متفتحة تجاه الحلول الجديدة، فعلى الرغم من أنها تناصر المساحات الفنية المادية، لكنها تدرك فوائد ربط الفن بجمهوره من خلال عالم الإنترنت. وقد أدى التسارع في التحول نحو المنصات الرقمية إلى خلق مساحة أخرى للفنانين الشباب ليكون لهم حضور أكبر. كما شجعت المنصات الرقمية ظهور الفن الغامر والتفاعلي القائم على التكنولوجيا. وتوضح علياء كيف أن هذه الوسيلة الرقمية أتاحت المجال لإمكانية الوصول للعديد من الفنانين الذين لم يتشكلوا كفنانين "بالطريقة الكلاسيكية"، أي من خلال لوحاتهم ورسوماتهم. كما تشرح علياء كيف وجد عالم الفن نفسه مرة أخرى في مدة زمنية أقرب بكثير مما كان مُتوقعًا، مع ظهور الحاجة لتوفير برامج رئيسية عبر الإنترنت، واضطرار الفنانين للتواصل مع الجماهير الافتراضية: "أعتقد أن الموقف الحالي قد خلق اندفاعًا سريعًا نحو المنصات الرقمية، وهو أمر كان سيحدث بالتأكيد مستقبلًا، ولكن بشكلٍ أبطأ وأقل إلحاحًا من الآن".
لقد ساهم فيروس كوفيد-19 في التبني السريع لاستراتيجية جديدة لعالم الفن تتمثل في وضع المعارض وعرض الأعمال على الإنترنت، وتشير علياء كيف اتخذ معرض أثر الإجراءات الضرورية على الفور للتكيف مع "الوضع الطبيعي الجديد". ومن الأمثلة على ذلك، تدشين معرض كبير لفنون الفيديو في وقتٍ كان مناسبًا لهذا المشروع. وعلى الرغم من أهمية نقل الأشياء إلى العالم الرقمي، تعود علياء لتشدد على مهمتها الأولى المتمثلة في رعاية الأعمال الفنية والإبداعية، وتوضح بالتفصيل كيف أن منحة "معًا" للفنانين - وهي صندوق للمنح الصغيرة تم إنشاؤه لدعم الفنانين المقيمين في السعودية الذين يعتمدون في معيشتهم على الفن من أجل الاستمرار. ثم تم توسيع منح هذه المبادرة لتشمل المبدعين من جميع الفئات، كالموسيقيين والباحثين، في محاولة منها لمكافحة آثار الجائحة على عالم الفن ككل.
لكن، علياء وجود بعض الثغرات في طرق الاستجابة الدولية لهذا الوباء، وقد أشارت إليها بينما ذكرت الطرق التي تتجمع بها الكيانات معًا لدعم الفنون في السعودية، فبالإضافة إلى المنح المقدمة للفنانين، هناك مطلب لدعم الكُتاب والباحثين والقيمين على المراكز الفنية المختلفة، وهذا هو السبب - كما تقول – الذي دفع معرض أثر لفتح باب المنح ليشمل فروعًا أوسع من عالم الفن والإبداع: "الشيء الذي أرى أننا نشرف عليه لكن نغفله بطريقة ما هو تقديم الدعم للمنسقين والباحثين والكتاب الذين يكتبون في العادة آراءهم وتقاريرهم حول المعارض التي كانت ستُقام الآن. التركيز موجه حاليًا على الفنانين، وأشدد على كلمة "فنانين"، وهو أكثر بكثير من التركيز على القيمين على المعارض أو الكتّاب الذيم هم بحاجة فعلية لهذا الدعم أيضًا، إذ لا نرى أصحاب صالات العرض يقيمون أي معارض حاليًا، ماذا يحدث لهم؟ وهذه المشكلة ليست محصورة بالمنطقة هنا، وإنما لحظتها حول العالم. لهذا السبب قمنا بفتح صندوق الدعم لجميع أنواع الفنون بشكلٍ عام".
من ناحيةٍ أخرى، تؤكد علياء على أهمية اتخاذ قراراتٍ صارمة لضمان استمرارية صناعة الفن. ولضمان استمرارية عمل فريق معرض أثر، تم تعليق إقامة جميع المعارض لهذا العام، ومواصلة العمل على مشاريع أخرى في غضون ذلك، على أمل إطلاق برامجهم لعام 2021 وسط آمال كبيرة بتحسن الظروف. وتُشير علياء إلى مدى سعادتها برؤية المؤسسات تحول موازناتها من إقامة المعارض إلى المنح التي ستدعم المواهب الإبداعية عبر الأجيال. وتذكر مثالاً على ذلك جهود الصندوق العربي للثقافة والفنون "آفاق" وكيف اجتمعت كيانات مثل مركز "الفن جميل" ومركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي – (إثراء)، وحافز غاليري، لتبادل الاهتمامات ومناقشة سبل الدعم الجديدة.
لقد واصلت الجهات المعنية اتخاذ قراراتٍ صعبة، يرافقها شعور دائم بضرورة اتباع استراتيجية مناسبة. وقد تعلمت علياء في الأشهر القليلة الماضية أهمية تحديد الأولويات. وحول ذلك تشير إلى أهمية تأسيس بنية تحتية مستدامة للقطاع الفني لدعمه في الوقوف على قدميه دون الحاجة للاعتماد كليًا على مصدر تمويل واحد. وتأمل في أن يتوجه التركيز على هذه القضية خاصةً في ظل الظروف التي فرضها الوباء، وخاصةً مع الوقت الذي يوفره للتفكير جيدًا في البدائل، كاستخدام الفنانين للمساحات لعرض أعمالهم: "تساهم التحديات في تشجيعنا على الخروج بأفكار مبتكرة للغاية".
كما تأمل علياء أن يُساهم الوضع الطبيعي الجديد في تغيير طريقة تفكير الناس، حيث يسيطر الخوف عليهم نسبيًا، والطريقة الوحيدة للتغلب على ذلك – باعتقادها - هي تغيير الطريقة التي ينظرون بها للأمور حينما تصبح الظروف والأحوال أفضل، وتعود الحياة لسابق عهدها. وحتى يعود القطاع الفني للعمل مرة أخرى، فهو بحاجة إلى مجموعة من الأمور الهامة والأساسية التي تعقب عودة الجماهير إلى صالات الفنون والثقافة. وتدرك علياء أهمية ذلك وتتوقع عودة الحياة في السعودية إلى طبيعتها قريبًا، مع توق الناس لذلك، واستمرار الدولة في تطبيق خطتها ورؤيتها.
ما يهم الآن هو وضع خطة لضمان استمرار عمل قطاع الفنون، وتشير علياء إلى مساهمة السياحة في بناء قاعدة جماهيرية أوسع مع الجهود المبذولة للمضي قدمًا في ذلك. إن فضول السياح لاستكشاف العروض التي تقدمها السعودية ورغبتهم بالاستمتاع بها، سوف يجذب الانتباه مرةً أخرى نحو التراث الثقافي الغني والمتنوع في المملكة، كما سيخلق موجة جديدة من التجارب المقدمة للجمهور، ونمطًا جديدًا من الحوار الثقافي الذي نتحد فيه جميعًا لنشجع المبدعين ونلهمهم ليكونوا جزءًا من هذه الصحوة.
إذا كان عام 2019 بداية لنهضة عالم الفن السعودي، فإن هذا العام قد علّم صناعة الفن أهمية مواصلة دعم هذه النهضة في السراء والضراء.
هذه المقابلة بين إثراء و (مجموعة من الضيوف) هي جزء من سلسلة حوارات حول تأثير جائحة كورونا، ومستقبل الصناعة الإبداعية.