تأمل فنّي
إيكاروس في عيون الفنانين
مشهد سقوط إيكاروس لوحة زيتية مرسومة على القنب - المتحف الملكي للفنون الجميلة في بروكسل العاصمة البلجيكية.
تعد أسطورة (إيكاروس) من أشهر الأساطير الإغريقيّة، التي ألهمت الأدباء والفنّانين، كما وظفها الفلاسفة، وكذلك علماء النفس المعاصرون، من أجل تقريب أفكارهم ومفاهيمهم.
تتكلم الأسطورة عن إيكاروس، الذي وجد نفسه محتجزًا في متاهة مع والده المهندس العبقريّ ديدالوس. أما سبب احتجازهما فهو أنّ الملك مينوس غضب من ديدالوس لأمرٍ ما، فقرّر عقابه بحبسه إلى الأبد، وحبس ابنه الشابّ معه مبالغة في العقوبة.
بما أنّ المتاهة كانت معقدة للغاية، وواقعة في جزيرة قصيّة، فإنّ الخلاص منها كان مستبعدًا جدًّا. إلّا أنّ الأب اهتدى بعبقريّته إلى فكرة تخرجهما منها، وهي استعمال ريش الطيور المتساقط في صنع أجنحة يستخدمانها في الطيران، ليقطعا بها المسافة إلى أقرب شاطئ متاح.
عكف ديدالوس على جمع الريش وإلصاقه بواسطة الشمع حتى أتمّ صناعة جناحين له ومثلهما لابنه إيكاروس.
ألقى الوالد تعليماته على ولده أثناء تثبيت الأجنحة بجسده، وأكّد على وصيّة مهمة قبل إقلاعهما، إذ أوصاه ألا يطير في مستوى منخفض فتتضرر الأجنحة برطوبة البحر وتثقُل به عن الطيران فيؤدي ذلك إلى سقوطه، كما عليه ألّا يطير مرتفعًا نحو الشمس فيذوب الشمع ويتساقط الريش بسبب حرارتها فيهوي إلى البحر ويغرق.
أقلع إيكاروس وطار إلى جانب والده مستمسكًا بتعليماته حتى أوشك أن يصل معه إلى شاطئ (بحر إيجة) ولكن بمجرد أن أشرفا عليه لمحا بعض الأشخاص المحدقين نحوهما بتعجب، وسمعا منهم ما يشير إلى اعتقادهم أنّهم ينظرون إلى آلهة (إذ لا يعرف عن البشر أنهم يطيرون)!
عند ذاك دخل قلب إيكاروس الزهو فانطلق صاعدًا بأجنحته محلّقًا نحو الشمس، متجاهلًا تحذيرات والده، فأدّى تحليقه إلى انصهار الشمع وتشظي الريش وسقوطه جرّاء ذلك في الماء غريقًا أمام ناظري والده الذي كان عاجزًا تمامًا عن إنقاذه.
كان للفنّ التشكيليّ نصيبُه الظاهر من التأثّر بهذه الأسطورة، حيث تعاقب كثير من الفنانين على استدعائها ورسمها، ولكن ربما يكفي أنّ نشير هنا إلى أعمال ثلاثة من الرسامين الكبار الذين استدعوا هذه الأسطورة في أعمالهم، ممّن جمعتهم حقبة واحدة تقريبًا، وبقعة جغرافية واحدة كذلك، حيث إنّهم جميعًا رسامون (فلمنكيون) عاشوا في أوروبا الغربيّة في النصف الأول من القرن السابع عشر.
أوّل هؤلاء الثلاثة هو (أنطوني فان ديك) والذي يظهر الابن ايكاروس في محور عمله، يقف وعيناه لا تخلوان من الحيرة، ويبدو كأنه يسترجع وصايا والده الذي يظهر واقفًا خلفه، ناظرًا إليه بحرص، كأنّما يتفقّد جاهزيته للطيران، ويتأكد من استيعابه لما ينبغي عليه فعله أثناء رحلة الهرب.
أما الرسام الثاني فهو (جيكوب بيتر غوي) الذي تصور لوحته لحظة سقوط إيكاروس، حيث حرص فيها على تكثيف الشعور بمأساة اللحظة، إذ تمكن فيها من إبراز تعبير الفزع على وجه إيكاروس بينما كان يهوي، وكذلك تعبير الأسف العاجز على محيّا والده. كما أنّه لم يغفل ما يشي بسطوع الشمس في أعلى اللوحة، وهيجان البحر في أسفلها، خالقًا بذلك مفارقة تصوّر اضطراب اللحظة الدراميّة في وجدان إيكاروس، أكثر من تصويرها لسلوك الطبيعة عند وقوع الحادثة.
أما ثالث النماذج فهو لوحة الفنان (بيتر بروغل) وقد نحا بها منحىً غير متوقع، فرغم أنّه أطلق على اللوحة تسمية (المشهد أثناء سقوط إيكاروس) إلا أنّ ما يظهر في اللوحة هو الجوّ الهادئ الذي يحيط بأشخاص منهمكين في أعمالهم بين مزارع يتبع محراثه، وراع يراقب أغنامه، وصياد يجذب شباكه، وبعض السفن التي تمخر الماء بهدوء. ولكن في ركن هامشيّ من هذا المشهد كله تلوح ساقان لرجل في وضع الغرق دون أن يلتفت إليهما أحد، وهما ما يبدو أنه الشاهد الوحيد لسقوط إيكاروس في تلك اللحظة!
ما الذي مثلته الأسطورة لكل فنان من هؤلاء؟ وما هي الطريقة التي قرأها بواسطتها ثم انعكست لقرّاء لوحته؟
لقد اهتم أنطوني ديك بلحظة ما قبل الطيران، وحاول بواسطة ذلك تصوير سلوكنا أثناء مواجهة المجهول، والفارق الذي تحدثه الخبرة والمعرفة بالحياة في أنفسنا في ذلك الموقف، فرغم أن تجربة الطيران جديدة على الكهل كما هي على الشابّ، إلا أنّ ما توافر للأول من الدراية بالحياة والطمأنينة لصنيع يده أكسبته تلك الثقة التي عكستها نظرة عينيه، وكذلك تماسك الجناح الذي أسند عليه يده أثناء حديثه لولده. بينما خلت تعبيرات الابن ايكاروس من كلّ ذلك، ولم يلُح على محياه سوى الحيرة والتشتت الذي كأنما كنّى عنهما الفنان بواسطة تطاير شعره واستفهام راحته.
في حين أن ما اهتمّ به جيكوب غوي هو تصوير ذروة القصة، وهي لحظة السقوط، المعبرة عن انهيار الذات البطوليّة، وسقوط أحلامها، بعد تهاوي كلّ ما كانت تستند عليه من أشياء صعدت بها في زمن ما، وهو ما عبّر عنه الفنان بمنظر الجناحين المتآكلين على ساعدي إيكاروس. وما عبر عنه كذلك بالتفاتة الأب المشغول بنجاة ذاته رغم أسفه على هلاك أقرب الناس إليه.
كلا العملين السابقين رغم تباين المعالجة فيهما للقصة ذاتها، انطلق من مركزية إيكاروس في القصة قبيل الإقلاع أو أثناء السقوط، ولكن هذا لا ينطبق على لوحة بروغل، الذي سعى عامدًا إلى تحطيم هذه المركزية في سخرية واضحة من مفهوم الذات البطوليّة نفسها، فعند النظر إلى المشهد من زاوية أوسع، أيّ فارق سيحدثه سقوط إيكاروس في هذا العالم؟ وما الذي تعنيه تفاصيل قصته بأكملها رغم ما فيها من دراميّة؟
ستستمر الحياة بالحركة، ولن يكترث أحد على وجه الحقيقة، حتى أولئك الذين حدقوا نحوه مملوئين بالإعجاب أثناء تحليقه في السماء.
ربما تعكس هذه النماذج طريقة تعاطي الفنّ مع الأسطورة، فبرغم انبثاق الأسطورة من الذاكرة الجمعيّة، إلا أنها تنطوي على ميزة فنيّة في صميم بنيتها، وهي انفتاحها المتجدد على القراءات الفرديّة، وهو ما يستثمره الفنان عادة ليطرقها من المدخل الذي يراه أقرب لمراده التعبيريّ، ولكنه بذلك لا يغلق شيئًا من دلالاتها، أو يحاول الاستحواذ على طاقتها التصويريّة، بل يأخذ طرفًا منها نحو منصّة إضافيّة منفتحة كذلك على دلالات قد يستولدها القارئ لعمله الفنيّ من جديد.
يكتبه: عبدالرحمن مرشود
كاتب وباحث سعودي مهتم بالفلسفة