لوحة (أصابك عشق) للفنانة: علا حجازي @olahejazi
لم تخلُ صفحةٌ، أو حتى سطر، من تاريخ الذات الإنسانيّة، باختلاف فصوله وتقلباته، من تلك الكلمة التي لعبت الدور الأكبر في سيرورته ومآلاته: العاطفة. إن العاطفة، بلا جدال، الوقود الذي يبعث الحياة في أوصال هذا الجسم المسمى "الإنسان"، والذي لولاه لما اختلف عن أي روبوت أو آلة. وكما يرى سبينوزا في هذه المسألة التي تلوح أقل بداهة مما يبدو، فإن الرغبة هي حقًّا وقود الإنسان. ولعلّ السؤال هنا يتجاوز مجرد السير في هذه المنطقة الوعرة بالمفردات: العاطفة والحب والرغبة، إلى فهم حقيقة العاطفة وإلى أيّ مدى يصل ارتباطها بإنسانيّة الإنسان، بل بجوهر الحياة ذاتها.
يمكن النظر إلى العواطف، والمشاعر بشكل عام، من زاوية نفسيّة باعتبارها الأحاسيس النفسيّة التي يجدها الكائن الحيّ إلى جانب أحاسيسه الجسديّة. فكما يستقبل الجسد الأحاسيس التي تنقل إليه معلومات عن البيئة التي يوجد فيها، كدرجة الضوء، والحرارة والأصوات؛ تستقبل النفس الأحاسيس المتعلقة بالحالات المعنوية والمواقف، كالفرح والحزن والخوف والغضب. إلا أن العاطفة هي التفاعل النفسيّ بين هذه المشاعر الأساسيّة، وبين سياقاتها وتجاربها المختلفة، لتكوين انفعالات أكثر تعقيدًا، ولعل من أهم هذه العواطف، إن لم يكن أهمّها بالفعل: المودة والمحبة.
وعلى الجهة المقابلة لسبينوزا، يعرف أفلاطون الحب بمعادلة مزدوجة، فالحب هو الرغبة، والرغبة هي النقص، ويقودنا هذا إلى أن الحب هو بحث لا واعٍ، وربما أيضًا لا نهائي، عن القطعة الناقصة في ثلاثية: ما لا نملك، وما لسنا عليه، وما ينقصنا. وعلى عكس عواطف أخرى كالغيرة والشك والحسد وغيرها، تلوح لنا عاطفة الحب سبيلًا لسد الفجوات في ذات الإنسان من خلال بحثها عن إكمال النقص فيها. وعلى ضوء هذه الفكرة نجد أنفسنا قادرين على تمييز عدة أنواع من العاطفة، كعاطفة الوالدين تجاه أبنائهما الذين يشكلون امتدادًا آخر لهما، أو عاطفة الفرد تجاه أصدقائه أو مجتمعه، بما يمثله له من مجال للخروج من شرنقة الفردانيّة ووضع المدارك والخصائص الشخصيّة موضع التبادل والتفاعل، أو العاطفة تجاه الخالق بما تعنيه من تحرر من سائر القيود، أو العاطفة الوطنيّة التي تمثل تكثيفًا لقيم التضحية والفداء والانتماء، أو حتى العاطفة التي تنشأ بين الإنسان والمادة، كالمال والممتلكات وغيرها.
وبعيدًا عن معادلات أفلاطون التي لا تثير سوى القلق في نفوس المتحابين، فإنّ عاطفة الحب هي بالفعل المحرك الأول للإنسان عبر مختلف محطاته، إذ وجد نفسه في سعي لا نهائيّ بين انفعالاته الباحثة عن إكمال ما ليس فيه، وبين غريزة البحث عن السكن والمودة. ولقد استفزّت هذه العاطفة كل الملكات الإبداعيّة لهذا الإنسان فأطلق العنان لتعبيره عبر العصور والثقافات، التي ربما لم تتفق على شيء اتفاقها على هذه العاطفة الكونيّة. لقد تناول الإبداع الفنيّ والأدبيّ هذا النسيج المتشابك الانفعالات والمعقد الأحاسيس بشكل طغى على كل إنتاجاته التعبيريّة الأخرى، ولعلنا لا نجانب الصواب إذا جزمنا أن عاطفة الحب، وروافدها كالاشتياق والمودة والصد والهجر واللقاء، تتربع على عرش الإنتاج الأدبيّ والفنيّ عبر التاريخ. فمن قلب الصحراء حيث نشأت قصائد الحبّ العذريّ والوقوف على أطلال الحبيبة والعشق الذي يصل حد الوله، إلى شرفات العشق في مدن أوروبا، إلى ساحات التانغو الأرجنتينيّة، ومن أبيات الغزل التي خُطَّت كلماتها على جلود الماعز وورق البردي، إلى مشاهد الرومانسيّة على شاشات السينما وخشبات المسارح، ومن المجتمعات المحافظة إلى المجتمعات الأكثر انفتاحًا، ومن نغمات القيثارة المترفة في شرفات عصور النهضة وصالوناتها، إلى أغاني الحب التي تتحدى غبار الحروب وتزهر وسط الدمار، كانت سطوة هذه العاطفة النبيلة أقوى من أي حدود. لقد بقيت قصائد قيس بن الملوح وجميل بن معمر وابن زيدون ومسرحيات شكسبير وروايات دستويفسكي وتولستوي، لتشهد على عظمة عاطفة الحبّ وترسخها في الوجدان البشري واقترانها بمصيره وكينونته.
إنّ الحبّ وقود الإنسان. تحمل هذه العبارة، التي وصل إليها سبينوزا، دلالات تجعلنا نطمئن على استمراريّته وديمومته، ربما أيضًا سرمديّته لو نظرنا من الزاوية المناسبة. ولكن من قال إنّ وقود الحبّ ليس معرضًا للاستبدال بطاقات بديلة، كغيره من الطاقات التقليديّة في هذا الزمن الذي يمد أصابعه لتغيير أدق مقومات حياتنا؟ تكاد الصورة تنقلب رأسًا على عقب، فبعد أن كانت العواطف ملاذنا المشتعل من ماديّة الجسد ورتابة الحياة، ها هي اليوم تبحث لها عن ملاذ في خضم النظرة الجديدة التي حوّلت الحب، برقته وعذوبته، إلى وجبة سريعة على موائد السينما العالميّة والتيارات الفنيّة الجديدة. إنّ الإنسان اليوم قد أصبح، أكثر من أيّ وقت مضى، أمام حتميّة الإبقاء على هذه العاطفة غضةً دافئة كما كانت دائمًا، ولعل الحمل الأثقل يقع على عاتق المجتمعات المطالبة بحماية العواطف الإنسانيّة وتوفير الإطار المناسب لها لتزهر وتستمر، حتى لا تتحول يومًا ما إلى مجتمعات من الرجال الآليين، تحركهم البرمجيّات وتحكمهم أحاسيس الجسد بعيدًا عن النفس ولواعجها وانفعالاتها، وعاطفتها.