لوحة (بن رمثان) للفنان: عبدالله الراشد الحميد
علاقة عميقة وغريبة تلك التي ربطت خميس بن رمثان - رحمه الله - بالأرض، وخصوصًا بصحراء الربع الخالي، هناك حيث تتشابه الأمكنة، وتبخل الطبيعة على عابريها بعلامات ثابتة يهتدون بها، إذ تتحرك الرمال بسرعة جنونيّة، لتخفيَ كلَّ أثر قد يوحي بتخيّل الطريق، وتوقع المسافات، وركوب الأفق الممتد.
كانت قدما خميس تعشقان الأرض وتثقان بها، وفي المقابل كانت الأرض لفرط ثقتها بخميس تمنحه أسرارها، وتبوح له بتفاصيل الإحداثيّات، بل إنّ نجوم السماء وحركة الكواكب في الفلك كانت تتواطأ مع الأرض، لتمنح ابن رمثان موهبة خاصة، تجعله، ليس فقط دليلًا صحراويًّا متميزًا، بل رجلًا خرافيًّا، يُضرب به المثل في معرفة الأرض، وتتحاكى الركبان قَصصه المبهرة، ولقد تجاوز صداه ذويه، وقبيلته، وجيرانه من البدو الرحل، ووصلت شهرته إلى السُّلطة المركزيّة للدولة السعوديّة الناشئة. توطدت العلاقة بين خميس والأرض كثيرًا، وحين دعت الحاجة لدليلٍ بمواصفات معيّنة، لأداء مهمة وطنيّة عظيمة، سيكون لها ما بعدها، لم يكن من الصعب اختيار خميس، بل كان اختياره منطقيًّا ومنتظرًا.
بينما كان خميس بن رمثان العجمي يمارس حياته اليوميّة، مع عائلته وبني جلدته، في صحراء الدهناء المترامية الأطراف، وصله نداءُ الوطن؛ طُلب منه أن يعدّ نفسه ليكون دليلًا في مهامِهِ الصحراء وفيافيها، وأن يرافق البعثة الجيولوجيّة الاستكشافيّة، التي عُهدت إليها مهمة التنقيب عن النفط في شرق المملكة العربيّة السعوديّة؛ طلب منه أن يستخدم مهاراته ومعرفته بكلّ شبر في الجزيرة العربيّة، وموهبته في استنطاق صمت الصحراء، كي يجعلها تبوح بما تخفي من أسرار؛ من أجل إنجاح مهمّة البعثة، ومساعدتها في التنقّل من مكان لآخر، وتتبّع نقاط النفط المحتملة.. هبّ خميس ليجيب النداء، ويلتحق بالبعثة، ليكون عينها، وبوصلتها، وخريطتها الناطقة. يكون المرء سعيدًا حين يؤدي مهمة يتقنها ويحبها وبدافع قوي، هكذا أحسّ خميس بن رمثان وهو يؤدي مهمة عبور الصحراء بدافع حبّ الوطن.
لم تكن المهمة سهلة، ولَم تكن الطرق مفروشة بالورد والزهور، فقد استمرت البعثة في المحاولات هنا وهناك، والتنقيب في كلّ شبر من تلك المنطقة دون جدوى، حتى بدأ حماسها يخبو، نظرًا للنتائج الأوليّة المخيبة، ولكنّ ابن رمثان ظلَّ واثقًا، لا دليلَ معه إلا عشقه لهذه الأرض، وثقته أنّها أرض خير، ويقينه أنّها لن تخفيَ عنه شيئًا.. كلما فوجئ الفريق البحثيّ، والمهندسون، وخبراء الجيولوجيا، وإداريّو الشركة الأمريكيّة المشرفة على التنقيب، بنتيجة سلبيّة، لاختبار، أو حفر بئر، تناقص الأملُ وجفّت عروق الحلم؛ اثنان فقط ظلّا واثقين، يتقاسمان الأمل كاملًا، ويشعلان فتيل الحماس بعد كل انتكاسة: ماكي ستاينكي رئيس فريق التنقيب، و خميس بن رمثان.
ثم جاء الفرج أخيرًا، وابتسم باطن الأرض لخميس وللمنقبين عن النفط، بعد خمس سنوات من البحث المتواصل، كانت مهمة الفريق قاب قوسين أو أدنى من التوقيف؛ مُنِح ماكس ستاينكي فرصة أخيرة، كان عليه أن يستغلها جيِّدًا، وقد أسرّ بذلك للدليل الذكيّ خميس بن رمثان، فضاعف جهوده وواصل استكناه الأرض بإصرار أكبر هذه المرة؛ وفي الرابع من مارس عام 1938 اكتشف الفريق بئر الدمام رقم 7، أول بئر نفط في السعوديّة، وهي البئر التي سمّاها الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله ببئر الخير، تيمُّنًا بها، وأملًا في أن تكون فاتحة خير وبركة للملكة.
لم تتوقف إسهامات خميس بن رمثان في هذا الاكتشاف العظيم فقط، بل واصل العمل وتحقيق الإنجازات في ظلّ شركة أرامكو، حيث احتفظت به الشركة دليلًا لا يشقّ له غبار، واستمر في وظيفته يكتشف حقلًا نفطيًّا وراء حقل، وبئرًا وراء بئر، على امتدادِ حوالي ربع قرن من النشاط والهمّة، وافته المنية وهو يتعالج في مستشفى أرامكو في الظهران سنة 1959، وكان رحيله خسارة كبيرة للشركة وللوطن، بكاه كلّ من عرفه، وبكته الأرض لا شكّ بطريقتها الخاصّة.
في سنة 1974 أطلقت شركة أرامكو اسم (رمثان) على حقل من حقول النفط تقديرًا له، واعترافًا بجهوده الكبيرة، وارتباط اسمه بتاريخ النفط في هذه الربوع. وما زال اسم خميس بن رمثان محفورًا في ذاكرة الشركة الأمّ، وذاكرة الوطن، وذاكرة شعب بأكمله، حتّى بعد ستة عقود من رحيله، ما زال الجميع يذكره ويدين له بالكثير من العرفان والامتنان والشكر، وستظل ذكراه خالدة، خلود كلّ الشخصيّات الوطنيّة التي قدمت جميلًا لوجه الوطن، ستظلّ ذكراه باقية ما تدفق النفط في أرض المملكة، وما صُدر برميل إلى الأسواق العالميّة، وما استمرت عائدات النفط والغاز عصب التنمية الأول في المملكة.. وما دامت بئر الخير ماثلة وشاهدة عيان على أنّ رجلًا عظيمًا مرّ من هنا ذات يوم، وترك أثرًا طيّبًا.
سيرة خميس بن رمثان رحمه الله تحكي في تفاصيلها وتجلّياتها قصةً أسطوريّة لرجل أحبّ الأرض فأحبته، وجابها من أقصاها إلى أقصاها، معتمدًا على ذاكرة قويّة، وحدس عجيب، وإحساس غريب، لم يستخدم قطُّ خريطة، فقد كانت خريطته في رأسه، وبين عينيه، وتحت قدميه.