الفنان التشكيليّ محمد السليم .. حياة عصاميّة زيّنتها الألوان 

تكتبه : الفنانة التشكيليّة نجلاء محمد السليم

 

 

 

    

 ولد الفنان محمد السليم في قرية (مرات)، شمال غرب الرياض، عام 1939م، لأسرة مكونة من خمسة أولاد، ترتيبه الرابع بينهم، كان والده بحارًا يعمل في صيد اللؤلؤ في البحرين، وبطبيعة عمل والده كان دائمًا ما يغيب بالأشهر عن الأسرة، ليعود لهم بالرزق، وعمل الطفل محمد في رعاية الأغنام وسنّه تسعة أعوام، مقابل التمر والطحين، يقدمهما لأمه لتحضر لهم وجبة الغداء.

     تعلم في مدرسة القرية الابتدائيّة على يد مدرسين من دولة مصر الشقيقة، وبعد ما أنهى المرحلة الابتدائيّة بتفوّق، طلبت إدارة المدرسة توظيفه معلمًا في نفس المدرسة، لمهاراته في عمل الوسائل التعليميّة، والرسم، والخط العربيّ. 

    نمّى مهارته الفنيّة من خلال العمل معلمًا، خصوصًا في الخط العربيّ، وفي عام 1961م انتقل إلى الرياض لاستكمال دراسته المتوسطة والثانويّة، دراسة ليليّة؛ لأنه كان لا زال يعمل معلمًا، ثم مشرفًا تربويًّا في وزارة المعارف.

   انتقل السليم بعد ذلك إلى وزارة الإعلام، ليعمل في محطة التلفزيون السعوديّ رسامًا، يرسم المناظر الطبيعيّة في خلفيات الديكور للبرامج، وفي عام 1970م حصل على الابتعاث لدراسة الفنون الجميلة في إيطاليا.

     كانت دراسة الفنون الجميلة في فلورنسا تجربة ثرية ومثيرة للفنان السليم، وجد نفسه فيها، وعاشها بكلّ استمتاع، واستثمار لكل فرصة يجد للفنون فيها مقامًا. رسم جوانب من البيئة الإيطاليّة، وتأثر بفنانيها الإيطاليين، ثم مزج بين الأساليب الأوروبية لرسم بيئته السعوديّة، والتي تتمثل في قريته مرات، وسكانها القرويّين، نفذ لوحات عديدة، ومارس تجارب فنيّة، وشارك في معارض كثيرة في إيطاليا، وباع منها الكثير لتغطية تكاليف عائلته ـ المكونة من زوجة وأربعة أطفال ـ التي كانت معه في فلورنسا بإيطاليا.

     عاد السليم إلى أرض الوطن الغالي في 1973م، وعاد يعمل في محطة التلفزيون السعوديّ، مديرًا لقسم الديكور فيها. خصص مرسمًا له في بيته، واستمر في الرسم وإقامة المعارض التي كانت محدودة وقليلة، مقارنة بما كان يحدث في فلورنسا، وكان يعاني أيضًا من شحّ الأدوات الفنيّة من: ألوان للمحترفين أمثاله، وقماش الرسم الجيد المشدود على إطار خشبيّ ... إلخ من الأدوات التي يحتاجها الفنان المحترف في الرسم، وقد ميّز ذلك من خلال إقامته في فلورنسا، كما أنّه تعرّف على القليل من الفنّانين الهواة، والذين كانوا يمارسون الفنون باستحياء، خشية نظرة المجتمع الدونيّة لهم، حيث إن ممارسة الفنون حينئذ كانت من الأعمال غير المفهمومة، وغير المستحبة. 

     عندها قرر السليم في 1979م إنشاء دار للفنون في الرياض، وأطلق عليها (دار الفنون السعوديّة)، تهتم بالفنانين الهواة، وتوفر لهم الأدوات والخامات اللازمة، تقيم لهم معارض فنية فرديّة وجماعيّة، تنشر الفن المحليّ في المحافل الخارجيّة، وتستقطب الفنانين الأجانب، للتعريف بالفنانين السعوديّين وتبادل الخبرات الفنيّة، والمشاركات الدوليّة، ومن مهامها أيضًا الترويج للأعمال المحليّة، وخلق سوق تجاريّة لبيع اللوحات، ونشر ثقافة الاقتناء الفنيّ في المجتمع المحليّ.

 

نجلاء مع والدها محمد السليم أواخر السبعينات، في مرسمه الخاص

ضمن منزله بالرياض وخلفهما إحدى لوحاته

 

     بينما كان السليم يعمل على تأسيس (دار الفنون السعوديّة) ظهرت مدرسته الفنية المميزة لأسلوبه في الرسم، وهي (المدرسة الآفاقيّة) في عام 1980م، حيث كان السليم له هاجس، كثيرًا ما أراد أن يوجده، وهو أسلوب الصحراء الذي ينتمي له الفنان السعوديّ.

     مفهوم الصحراء مفهوم فلسفيّ مهم بالنسبة للسليم، فتأثير الصحراء ـ بوصفها بيئة يعيشها الفنان السعوديّ ـ تأثير ملهم، وكبير، على: ألوان الفنان، وتكويناته، المستمدة من الصحراء، وكثبانها، ونباتاتها، وحرارتها ...الخ.

    ألّف السليم كتاب الآفاقيّة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، دليلًا يوضح فيه مفهوم فنّ الصحراء، وعرض فيه بعضًا من تجاربه التي توضح هذا المفهوم . 

    كتب السليم في كتابه "يرتكز الموضوع على امتداد خط الأفق يمينًا ويسارًا، بحيث يعطى الامتداد اللانهائيّ، لدرجة تجعلك تنتظر بقيّة الموضوع فيما بعد الإطار، إلا أن وسط الأفق بين إطاريّ اللوحة يحمل التكثيف الأكثر لإبراز العناصر المهمة للموضوع. أما الصدى السرابيّ والضبابيّ للموضوع، فيظهر في أسفل وأعلى الموضوع، ليكون غلافًا من الترديد لأنغام وإيقاعات توحي بحيويّة فكرة الموضوع، ونبض المشاعر الحسيّة تجاهه. بإيحائيّات لونيّة لا نهائيّة، تتناسب مع لا نهائيّة الامتداد الأفقيّ والرأسيّ، نحصل على عمل فنيّ يحمل مزايا الامتدادين الأفقيّ والرأسيّ، بلغة الصحراء في سعتها، وامتداداتها اللامتناهية، في جو يكون في الهمس صوتًا واضحًا، واللون متمازجًا متناغمًا، بإيقاعات تشارك نبض قلب الإنسان، لتسمع أصداء الأصوات، فترى ذبذباتها ترددات لونيّة لا متناهيّة".

    هذه مقتطفة من الكتاب الذي يحمل الكثير من التوضيح والشرح لأسلوب السليم أسلوب الصحراء (الآفاقية).

      وقال السليم في كتابه عن الهُويّة الإبداعيّة: "الفنّ التشكيليّ لغة اتصال إنسانيّة بين البشر جميعًا، هي في رأيي لغة الصامتين، أو لغة الهامسين بصوت يخترق طبلة الأذن، ويتعدى صداها الأجيال عبر التاريخ الإنسانيّ، ولكلّ لغة أصولها ومناهجها، الآفاقيّة الصحراويّة ما هي إلا خطوة ضمن تلك الأصول والمناهج لتلك اللغة الإنسانيّة، لا تسعى إلى وضع حدود في طريق إبداع الفكر الإنسانيّ، بقدر ما هي انطلاقة لإبداع الفنان بمواهبه الذاتيّة، الحاملة لقيمه ومبادئه السامية، من خلال البيئة التي تنشأ فيها، والقيم الأخلاقيّة التي تربى عليها في إطار شخصيّة فنيّة متميزة، وهو ما أسميه بالهُويّة الإبداعيّة للفنان الصادق حقًا".



 

 

 

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode