الفنان الضيف
الفنُّ مجهرٌ لاكتشافِ الماضي وسبرِ التاريخ
نحاور في هذا العدد من إثرائيات الفنان التشكيلي علي بن سعد الشريف الذي عكف أخيرًا على الاشتغال بالنقوش الصخريّة، والتنقيب في الآثار السعوديّة، وفحص تفاصيل الحياة التي تنطوي في رسوماتها ونقوشها، وما اختزنته من ذكر الحضارات الغابرة ـ التي قامت ثم درست ـ على أرض الجزيرة العربية، وبما طوته تلك الأطلال من أخبارهم وأسرارهم.
بدأ رحلته من منطقة حائل شمال السعوديّة، حيث الشواهد الأثريّة والتاريخيّة على استمرار الاستيطان البشريّ في منطقة حائل، منذ عصر ما قبل التاريخ. وأخذ يتتبع تلك النقوش: مواطنها ومظانها، ويقف عليها بنفسه، ويلتقط لها الصور، ويُجري عمليات المقارنة والتوثيق، ويتثبّت من مثيلاتها، ويقضي الكثير من الوقت قبل أن ينجز منتجًا فنيًّا وتاريخيًّا يضيف إلى معرفة الناس ويذكي شغفهم.
عن كواليس اختياراته للأفكار وإنجازه للأعمال يقول الشريف: "ما ألهمني الفكرة هو كثرة النقوش وتفرق مواقعها في أنحاء المملكة، وتبلورت لدي رغبة بوضعها في لوحات فنّية على قماش من خلال الفنّ التشكيليّ، لتكون متيسّرة لمتذوقي الفنّ، والمهتمين بالتاريخ، ومشاهدتها وكأنها على الحقيقة، وتخفيف عناء البحث عنها والوصول إليها، سيما وأن الكثير منهم تمنعهم وتشق عليهم وعورة الطرق وصعوبة صعود الجبال والصخور وتفرق بعضها عن بعض".
يمتاز عمل الشريف بالجمع بين البحث والفنّ، بين التوثيق الدقيق وتقديمه في عمل إبداعيّ، يتحقق لديه هذا التعانق بين الجانبين، باجتماع اهتمامين لديه، حبّ الموروثات القديمة، والتجسيد والرسم كفنان تشكيلي. أما باكورة عمله فكانت مع حضارة العرب الثموديين القدماء، يقول الشريف عن التجربة: "سعيت للخروج بعمل مميز يُقدم وُيشاهد بوصفه فنًّا بصريًّا، يطلع عليه أبناء المجتمع السعوديّ، بوصفهم ورثة المجتمعات القديمة البِكر، واستنطاق النقوش الصخريّة والمخزون الأثريّ الذي يُلقي الضوء على جانب من: حياتهم، وطرائق عيشهم، وأنشطتهم، ويومياتهم، ومظاهرهم"، ويضيف: "أعمل على كلِّ لوحة فنيّة بطابع وإخراج معين، يحكي جوانب من الأنثروبولوجيا العربيّة الثموديّة، من حيث: الصناعة، والتجارة، والزراعة، والفنون، التي صنعها الإنسان الأول القديم على أرض الجزيرة العربية، وليتعرفها كلُّ من يزور السعوديّة من السياح، والمساهمة في تعريفهم بموروثنا الثقافيّ والأثريّ القديم، والذي يتجاوز ٩ الآف عام قبل الميلاد".
ولأن التراث بتعدد أشكاله: الماديّ، والثقافي، والطبيعي، هو المكون الذي يُضفي التميز على هوية الفرد في مختلف المجتمعات الانسانيّة، والقيمة الأصيلة التي تبقى متوارثة في ذوات الأفراد على تعاقب الأزمنة والدهور، يشارك الفنان الشريف مع فريق عمل يجمعه بالفنان التشكيليّ فهد بن ناصر الربيق الخالديّ، والروائية سيما اليعيش، لإصدار عمل بحثيّ وفنيّ متكامل، في شكل كتاب، لم ير النور بعد، لتجسيد الرسومات الصخريّة في الحضارة العربيّة الثموديّة في مختلف مناطق المملكة. وقد جاء التجسيد بشكل فنّيّ جاذب للمتلقي، من تكوين المواضيع، إلى اختيار الألوان، وتوزيع العناصر، وقراءة الرسومات الصخريّة، لأن إنسان ما قبل التاريخ عرف الرسم تعبيرًا عن ثقافته، قبل الكتابة الحرفيّة.
وتناولت الروائية "سيما اليعيش" زمام البحث والتأليف لكتاب (وثمود فما أبقى) إذ يحتوي على نحو ست عشْرة لوحة فنيّة في مختلف الموضوعات الحياتيّة العربيّة الثموديّة، من: صيد، وزراعة، وصناعة، وتجارة، وفنون. كما تناول الكتاب قراءة عناصر الرسوم الصخريّة، وطرح قراءة موضوعيّة للعبادة، والحرب، والموت، وقيمتها في حياة الثموديين، ومحاكاة بسيطة بشكل سرديّ قصصيّ متخيّل لبعض جوانب هذه الموضوعات. وحول قيمة الكتاب وأبعاده الفنية والمعرفية تقول اليعيش: "يعتبر الكتاب حلقة وصل زمنيّة بين الإنسان المعاصر، وبين الفرد والمجتمع العربيّ الثموديّ الموغل في القدم، لينقل القارئ في رحلة للمتاحف المفتوحة في المواقع التاريخيّة، ويحيي في مخيلة المتلقي طرق الحرير ودرب البخور، لتجسيد نوع من التواصل المعرفيّ الذي رغب به الثموديّون عندما خلّدوا حضارتهم الإنسانيّة في أدق شؤون حياتهم الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة على صفحات الأرض، قبل تسعة آلاف عام قبل الميلاد. وأتمنى أن يرى كتاب (وثمود فما أبقى) النور قريبًا، بالتعاون مع الجهات المهتمة بالثقافة والسياحة والآثار".
حاجتنا لتنقية تراثنا، وتوثيقه، وقياس درجة اتصاله بالخرافة والأسطورة، عمل ضخم يحتاج إلى إمكانيات متعددة، ودعم كبير، بحسب ما تمليه تجربة الفنان الشريف، لأنّها تقتضي مراحل من: البحث، والدراسة، والتصنيف للزمكان، ثم التوثيق المبني على التكوين عبر الفن الجرافيتي قبل أن يظهر للعيان. وعن ذلك يقول الشريف: "الحضارات القديمة التي قامت على تراب الجزيرة العربيّة تستحق التوثيق، وقد تمكّنت بفضل الله من تكوين لوحات من المكون الأصليّ لها، الموجود على الصخور بالمملكة، والقادم فيه مفاجآت من حيث التنوع الفنّيّ، لحفظ موروثنا، ونقله للجمهور والمهتمين".
وعمّا ينقص هذا المجال، وضرورات إخصاب الفضاءات الفنية والتأريخيّة ، يشير الشريف إلى أن: "المجال واسع ومشوّق ومؤثّر، وينقصه الدعم، وبعض الإمكانيات الماديّة، والتغذية الإعلاميّة، وتوفير معرض أو متحف يضم المخرجات، واستثماره سياحيًّا، ليتعرف المجتمع المحلي والعالم موروثنا الأثريّ عن قرب، وستدهشه المحتويات".
علي الشريف