الحداثة والتراث في لوحة: الأم والطفل والرمّانة
أثناء فترة مييجي (1868 – 1912) بدأت اليابان عمليّة انفتاح وتحديث واسعة شملت أجزاء الدولة والمجتمع، بما في ذلك فتح الموانئ للتجارة الخارجيّة واستقبال الثقافات الأخرى. كان لهذا الانفتاح تأثير على الفنون الغربية حيث سافرت المطبوعات اليابانية التقليديّة إلى أوروبا وانتشرت بشكل كبير لدرجة أنّها أثّرت على الفنّ التشكيليّ الغربيّ فساهمت في ظهور تيار ما بعد الانطباعيّة والحداثة الفنيّة الأوروبيّة. كان فنسنت فان جوخ الفنان الهولنديّ ما بعد الانطباعيّ أحد المعجبين بالفنّ اليابانيّ، فكان يجمع ما يقع في يده من مطبوعات ويعيد رسم العديد منها بعد إضافة لمساته الخاصّة.
أمّا داخل اليابان فقد ظهرت حركات فنيّة كذلك بتأثير من هذا الانفتاح. ظهرت أولًا حركة اليوجا الفنيّة عام 1876م التي اعتنقت الانفتاح وجرّبت الأساليب والخامات الغربيّة في الرسم، فرسم الفنانون اليابانيّون أولًا مواضيعهم المعتادة كالأزياء والطبيعة اليابانيّة بالألوان الزيتيّة على الكانفاس، تمامًا كالطريقة الغربيّة بأساليب مثل الرومانسيّة التي كانت سائدة في أوروبا في تلك الفترة، انطلقت اليوجا بعد ذلك لاستكشاف مواضيع وأساليب فنيّة أخرى. قامت حركة اليوجا على مبدأ أن اعتناق الأساليب العالميّة في الرسم هو أمر ضروريّ من أجل مستقبل الفنّ في اليابان، كما أن العمل الفنيّ إذا كان نابعًا من قلب الفنان فلا يهم تصنيفه غربيًّا أو يابانيًّا أو أي شيء آخر.
ثم في العام 1882م، ظهرت حركة النيهونجا الفنيّة بوصفها ردّة فعل لتحافظ على التراث الفنيّ اليابانيّ الذي كان مستمرًّا منذ حوالي الألف سنة، ولتقاوم الأساليب الغربيّة القادمة من خارج الحدود قدر الإمكان. حاول الفنانون اليابانيّون الحفاظ على الروح الفنيّة اليابانيّة، حيث الطبيعة مصدر الإلهام الأول، ثم الأساطير اليابانيّة، ثم الأزياء الشعبيّة، وتفاصيل الحياة اليوميّة. إنّ الفنّ اليابانيّ يجب أن يكون منتميًا لهذه الأرض، تمامًا كما أنّ اللغة اليابانيّة لا يتحدثها أحد آخر سوى اليابانيّين.
الرسامة اليابانيّة المعاصرة ياسودا إيكودو (ولدت في 1949م) رسمت لوحتها «الأم والطفل والرمّانة» في العام 1980م. ترخي الأم عينيها بينما تحيط الطفل بذراعيها في لحظة حميميّة، وفي مركز اللوحة ينظر الطفل مباشرةً إلى المشاهد حيث تكمن نقطة قوة اللوحة. وعلى غرار الفنّ اليابانيّ الكلاسيكيّ، التدرجات اللونيّة شبه معدومة، ما عدا بعض التدرّجات في لون البشرة. أما الظلال الساقطة فلا داعي لها، إذ قد تُشتت الناظر عن الرمانة الحمراء التي يمسكها الطفل، والتي تعبر عن حرارة القلب النابض ودفء الحب.
لا يمكن تمييز مصدر الإضاءة في هذا العمل بسبب انعدام الظلال، ولكن الملامح الهادئة لشخصيتي اللوحة محددة بشكل واضح كما هو التقليد اليابانيّ القديم، مما يكرّس المزيد من إحساس السكينة والسلام.
ياسودا إيكودو تستغل اللونين الأبيض والأزرق لخلق تكوين سهل في وسط اللوحة، يعوم في فضاء من اللون الذهبيّ، وهذا اللون الذهبيّ يتسرّب بشكل سحريّ إلى الرداء الأزرق من خلال التطريز في أطراف الرداء، ليعزز من شعور الاحتضان للطفل.
يذكرنا هذا العمل بالأيقونات المسيحيّة الغربيّة للسيدة مريم العذراء والمسيح الطفل، ولعلّ أشهر وأقرب تمثيل لموضوعنا هو لوحة «مادونا والرمّانة» التي رسمها فنان عصر النهضة الإيطاليّ ساندرو بوتشيللي في العام 1487م. وهنا نشهد ظاهرة عكسيّة، فبعد أن أثر الفنّ اليابانيّ في الغرب، وأسهم في صنع حداثته الفنيّة، تتسرب الثقافة الغربية من خلال أيقونتها الدينيّة الأشهر إلى الفنّ اليابانيّ بكل هدوء، مهما كانت مقاومة المحافظين اليابانيّين لذلك.
يكتبه: عماد بوخمسين ( Emad Bu-Khamseen)
مهتم بالكتب والفنون. مصوّر فوتوغرافي ورسّام