هنالك جهودٌ متضافرة تسعى للحفاظ على التراث الإسلامي المملوكي في القاهرة من التلف والتلاشي، إذ يسعى الناشطون في مجال الآثار والسلطات إلى حصرها وصونها؛ سعيًا للحفاظ على عناصر معينة مثل البلاط واللوحات وعلى وجه الخصوص العناصر كبيرة الحجم كالمنابر الموجودة فيالمساجد المملوكية المنتشرة في المدينة والمباني التاريخية الأخرى.
وقد أخذ الخبراء والباحثون على عاتقهم عملية فهرسة وتصوير وتحليل المنابر المملوكية والمقتنيات الأخرى بصورة شاملة؛ ليتمكنوا من التعرف عليها، واستعادتها بسهولة في حالة تعرضت للسرقة أو ترميمها في حالة تعرضت للتلف بسبب الحرائق، كما إن البحث المصمم لمنع الخسارة أدى إلى أن يتم تحليل المنابر والعناصر الأخرى ودراستها بشكل أعمق أكثر من أي وقتٍ مضى.
والحال أنّ الجهود المبذولة في سبيل الحفاظ على تراث القاهرة المملوكية سيكون موضوع ورقة بحثية تُقدّم في مؤتمر إثراء القادم حول موضوع المسجد، إذ يستضيف مركز إثراء بالتعاون مع جائزة عبد اللطيف الفوزان لعمارة المساجد مؤتمر تحت عنوان: "المسجد: إبداع في الموضوع والشكل والوظيفة"، وتُعقد الندوة بالتزامن مع معرض إثراء القائم بعنوان "شطر المسجد"، والذي يقدم مقتنيات من المساجد والفن الإسلامي لمختلف الفئات، كما سيُعقد المؤتمر في مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) خلال الفترة من 24 - 25 نوفمبر 2021م.
ويتضمن المؤتمر تقديم ورقة بحثية معدّة من قبل الباحثة في تاريخ العمارة المملوكية الدكتورة أمنية عبد البر، حيث كانت تعمل مع متحف فيكتوريا وألبرت في لندن ومؤسسة أبحاث التراث المصري في القاهرة، وقد عملت ضمن فريق لفهرسة التراث القروسطيّ في المدينة وساعد التمويل الدولي من حكومة المملكة المتحدة على إتمام العمل من خلال صندوق يديره المجلس الثقافي البريطاني.
وكانت مشكلة اختفاء بعض العناصر من المساجد المملوكية قد أصبحت حادة وفقًا لعبد البر في العقدين الماضيين في خضم الاضطرابات السياسية، وفي حين أن نهب الآثار في مناطق الحرب مثل سوريا والعراق قد جذب اهتمامًا دوليًا، وقد تأثرت مصر بذلك أيضًا، إلى جانب السرقات وسط الاضطرابات الشعبية، حيث تضرر التراث بسبب سلسلة من مشاريع البناء غير المرخصة، وكانت الناس ببساطة يبنون مبانٍ جديدة بغض النظر عن أي تراخيص أو أذونات أو قضايا تراثية.
وكما ذكرت الدكتورة أمينة عبد البر: "منذ عام 2006م، كان واضحًا بأن هناك سوقًا للفن الإسلامي، ولذلك السبب بدأت عملية النهب في مصر بشكل عام، وفي القاهرة بشكل خاص، ومن المدينة التاريخية، وتضمن ذلك العديد من العناصر من المساجد مثل قارعات الأبواب والألواح الخشبية المنقوشة وحتى الألواح الرخامية.
كما تعرض التراث لهجوم غير مسبوق؛ وكان الأمر أشبه بالحرب، وظللت أقول بأن مصر تعاني من وضعٍ مماثل لما يحدث في سوريا والعراق، وكل ما في الأمر أن الموضوع لا يحظى بالاهتمام الكافي لأننا لسنا في حالة حرب كما هو الحال في البلدين الآخرين، فكل ما شهدناه ليس "سوى" إضراب شعبي، ولكوني معمارية أعمل على الحفاظ على المدينة التاريخية، فقد بدأت في تدوين الملاحظات بينما كانت الأشياء تختفي ولأننا كنا سنحاول إبلاغ السلطات بها".
كما بدأت عبد البر وغيرها من المختصين القلقين على ما يحصل في اتخاذ نهج أكثر فعالية لحماية التراث الإسلاميّ، وبدأوا في الاستعداد مسبقًا لحالة النظام العام، واتخاذ إجراءات لتأمين العناصر والمباني المعرضة للخطر.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت الاضطرابات العامة واسعة النطاق أقل شيوعًا، ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة لحماية المقتنيات من السرقة والتخريب، وبقي سجل التصوير الفوتوغرافي غير مكتمل على الرغم من شهرة القاهرة العالمية كمدينةٍ تاريخيّة.
وأضافت عبد البر: "واصلتُ عملية التوثيق، وكلما فقدت شيئًا ما، كنت أحاول البحث عن صورته حتى نتمكن من التعرف عليه في حالة ظهوره في السوق الفني، ومن صدمتي أنّه على الرغم من أن القاهرة هي واحدة من أكثر المدن التي خضعت للتصوير، إلا أنه من الصعب جدًا العثور على ما تبحث عنه، وبعد ذلك، بمجرد أن أعددت قائمتي وتمعّنتها وتم إخباري بما يحدث، أدركت بأن منابر المساجد كانت تتعرض للنهب باستمرار، إذ كنا نقرأ في الأخبار عن سرقة شيء ما أو فقدانه.
ولأننا فنيون، بدأنا في النظر إلى الأشياء وأدركنا أن لدينا ما يصل إلى 13 منبرًا مفقودًا، وهذا يمثل عددًا كبيرًا، وفي الوقت نفسه، ستجد أجزاءً من هذه المنابر معروضة للبيع في المزادات في لندن وباريس وهولندا، ولم أتمكن وقتها من تحديد مصادر تلك القطع.
ومع هذا الوضع المحبط، جلست مع فريقي في المؤسسة المصرية لإنقذ التراث، والتي كانت وقتها حديثة الولادة، حيث أُنشِئت المؤسسة في عام 2013م ؛ لأننا أدركنا عدم امتلاكنا المعرفة اللازمة لإنقاذ التراث الثقافي".
وقد كانت أولويتنا الأولى تصبو إلى توفير التدريب اللازم للحصول على عدد كافٍ من الأشخاص القادرين على القيام بعمليتيْ التقييم والفهرسة في مصر لمحاربة السرقة والتجارة غير المشروعة، وفي ضوء ذلك، بدأ الفريق في توثيق ما تبقى من المنابر التي بلغ عددها 44 منبرًا، بالإضافة إلى المقتنيات لحمايتها من لصوص الثقافة.
وأضافت عبد البر قائلةً: "أخبرتهم بأنّ علينا أن نكون إيجابيين وأن نقوم على الأقل بتوثيق ما لدينا، ودعونا نفكر بما لا يزال قائمًا في المساجد المصريّة، ولنوثّق ما لدينا حتى ننشئ سجلًا وقاعدة بيانات ويصبح لدينا تصور مناسب ورسومات معماريّة جيدة، وبالتالي، إذا حدث أيّ شيء مستقبلًا، سنعلم من أين أتى".
تضمنت العملية صورًا تفصيلية وتحليلًا لمنابر المدينة التي تعود بتاريخها إلى القرون الوسطى، بالإضافة إلى ملامح أخرى حتى يمكن التعرف عليها في حالة سرقتها مستقبلًا، وعادةً ما يقوم اللصوص بتفكيك المنابر ويحاولون بيعها كقطع صغيرة لجامِعين متعددين لزيادة الربح وتقليل فرصة اكتشاف ما سرقوه، ويبلغ طول القطع التي تُباع بطريقة غير قانونية في السوق ما بين 15 - 20 سنتيمترًا، ولكن، إذا تم توثيق المنابر بطريقة صحيحة وبشكلٍ كافٍ، يمكن تحديد القطع الصغيرة واستعادتها ويمكن إيقاف ومقاضاة التجار غير الشرعيين.
كما عقّبت عبد البرّ على أن عملية الفهرسة أثرت على عدد السرقات مع مرور الوقت، حيث قالت: "قلنا دعونا نركز على شيء واحد فقط، ونحاول أن نصنع شيئًا إيجابيًا من هذا الوسط السلبي، وكان ذلك أحد أفضل القرارات التي اتخذناها على الإطلاق، وذلك لأن هذا المشروع غيّرنا تمامًا وتعلمنا الكثير منه، وتمكنا أخيرًا من إيقاف نهب المنابر؛ لأنه لم يتم نهب أي شيء منذ أن بدأنا بتنفيذ مشروعنا".
جلبت الدراسة الشاملة رؤى جديدة لمكامن تصميم وبناء المنابر. إذ أضافت عبد البر، "العمل على مشروع المنابر أثرى معرفتي بشكل كبير، حتى إنه طوّر من مهاراتي في البحث وطور من مفهومي للفن والعمارة المملوكية. وأشعر بأني اكتسبت الكثير لأني درست العناصر عن كثب. ومن المفارقات أنني لم أذكر أي شيء عن المنابر عندما كتبت رسالة الدكتوراه، حيث إنك تذهب إلى تلك الآثار المذهلة وتنظر إلى فن العمارة والقباب والمحراب وربما نادرًا ما تنظر إلى المنبر، وحتى إنني لم أمتلك أي صور فوتوغرافية لزياراتي، وأعني أنك قد تراه، ولكن قد يكون ذلك بشكلٍ عابر، وهذا هو السبب وراء شحّ التوثيق والتسجيلات، ولكن عندما بدأت العمل على هذا المشروع، اكتسبت الكثير من الخبرات في التراث المملوكي وأفهمه الآن أكثر من أي وقت مضى.
كما أننا أجرينا دراسة بحثية، ونحن بصدد نشر كتاب عن المشروع كوننا اكتسبنا الكثير من المعلومات، حيث أننا نقوم بفهم كل ما يتعلق بالحرف اليدوية بشكل أفضل بالنسبة للهندسة، فهي متطورة للغاية، إذ تعدّ الهندسة المملوكية من أفضل الهندسات في العالم، ولطالما أحببت الرسومات الهندسية، وبذلت جهدًا إضافيًا لفهم كيفية رسم تلك الرسومات المعقدة، والتي لا تُستخدم كثيرًا.
ولذلك، قد تكون هناك 16 أو 18 طبقة حيث أمضيت صباحي كاملًا وأنا أرسم، ولقد كان ذلك تحديًا لي ولكنا تمكنا من فهم كيفية رسم كل شيءٍ الآن.
إن معظم المنابر مصنوعة من الخشب، وبعضها الآخر من الرخام، وهناك أيضًا المصنوعة من الحجر، ومن خلال دراسة هذه الحيثية، تتفتح عيناك اتجاه العمارة المملوكية وعمارة المساجد كذلك، وتصوّر لك تاريخ الحرف اليدوية والتصميم وتطوّر العملية التصميمية نفسها، وبالتالي فإن البحث في هذا العنصر من المسجد بحد ذاته جعلنا نستوعب الكثير حول الفن والعمارة المملوكية".
يتفرع العمل الآن بعد أن تم توثيق العديد من المنابر بتفاصيلها الدقيقة، كما إن الخبراء بدأوا البحث عن أهداف أخرى للصوص، مثل الألواح وقارعات الأبواب.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هناك توجهًا للحفاظ على المهارات التي يستخدمها النجارون التقليديون عند بناء أو ترميم المنابر، إذ عمل الفريق على تحديد حرفي خبير واحد ويحاولون تجميع معرفته وخبرته وتقنياته؛ ليتمكن من نقلها إلى الآخرين.
كما قالت عبد البر: "لقد لاحظنا كيف تدهورت حرفة النجارة التقليدية في مصر بشكل كبير، وبدأنا حقًا بفقدان المعرفة المتعلقة بها. وعلى إثر ذلك، نحاول الآن إنشاء أرشيف مكون من عشرين تفصيلًا عن المنابر، وهي تفاصيل تمكنك من أخذ جزء من الرسم لإعادة إنشائه، وهذا يتم تكراره لاحقًا حتى نتمكن من الحصول على توثيق رقمي ومادي في نفس الوقت، وبالتالي النظر إلى كيفية ترابط الأشياء مع بعضها البعض.
وعثرنا على خبير حرفي وهو الوحيد المتبقي في مصر، ونعمل معه الآن لإعادة إنشاء الأرشيف وتجربة كل شيء ومحاولة معرفة أفضل طريقة لتوثيق هذه الأعمال الخشبية، مثل الحفر والنقش، ونحن نقوم بمحاولة إنشاء دليل يستطيع الناس اتباعه مستقبلًا".
وبغض النظر عن عملية الأرشفة والبحث، يدرس الفريق كيفية توسيع فرص الحرفيين في لإنشاء منتجات حرفية قابلة للتسويق للمستهلكين العاديين، ويبقى الأمل في أن يقبل المزيد من الفنانين على تعلم هذه المهارات وأن يكونوا قادرين على اكتساب لقمة عيشهم من صناعة المنابر والأعمال الحرفية المعروضة للبيع.
كما عمل الخبراء على جعل المساجد أكثر أمانًا لكل من المقتنيات والزوار، وفي بعض الحالات، وجدوا بأن ركاكة ربط الأسلاك الكهربائية وأعمال السباكة الضعيفة تشكلان خطرًا كبيرًا مماثلًا لخطر السرقة بذاته.
حيث أفادت عبد البر بأنّه: "في معظم الأحيان نعمل بجدّ على البنية التحتية؛ فعندما بدأنا مشروعنا، استنتجنا بأن السرقة لم تكن أكبر تهديد للمنابر، بل الحريق. وذلك بسبب جميع المواد الخطيرة المخزنة أسفلها والأسلاك المثبتة حولها. ولذلك، قمنا بإزالتها جميعها خلال المشروع كجزء من خطة درء الخطر، وقمنا بتنظيف كل شيء وأزلنا الأسلاك الكهربائية ووضعنا دوائر كهربائية منفصلة بعيدًا عن المنبر لحمايتها من أي حريق محتمل".
تكللت بعض محاولات محاربة التهريب بنجاح، حيث تم اعتراض طرد في كوبنهاجن الدنمارك وعرضه على السلطات المصرية للتحقق منه، وتم التأكد بأن محتوياته قادمة من منبر موجود في القاهرة، والذي تعرض للتجريد من ألواحه الخشبية المنقوشة حتى أصبح أشبه بقفص دجاج.
تتطلب هذه النجاحات مجموعة من العوامل. حيث يجب أن يتم تحديد السرقة والإبلاغ عنها لإنشاء سجل بوليسي لها، ويجب أن تكون هناك صور للعنصر الأصلي لتمريرها إلى السلطات، وقد يكون الحصول على صورة واضحة للعنصر المسروق تحديًا كبيرًا.
وأضافت عبد البر قائلةً: "في عام 2015م، لاحظت بأن هناك شيئًا مفقودًا في أحد المساجد، وعندما سألت عنه، أخبروني بأنه تمت سرقته في فبراير الفائت، وحاولت البحث عن صورة توثقه، ولكن واجهت صعوبة في ذلك. وفي النهاية، استطعت إيجاد الصور في أرشيف متحف فيكتوريا وألبرت في لندن والذي كنت أعمل على تطويره، في صورة تم التقاطها في عام 1916م وكانت تتمتع بدقة عالية للغاية مكنتني من قراءة ما كان مكتوبًا عليه".
ولكن حجم العمل شاق للغاية، وهناك الكثير من المشاكل التي تتعلق بالأحكام والمسؤولية العامة والتمويل والتدخلات، وهناك تقسيم للجهود ما بين وزارة الأوقاف التي توفر الدعم المادي، ووزارة الآثار التي تشرف على عملية الحفاظ على الآثار؛ مما يعني أن توزيع دور التمويل والتنفيذ لا يكون واضحًا دائمًا.
أضف إلى ذلك أنّه على الرغم من امتلاك مصر لأفضل خبراء الحفاظ على الآثار في العالم، إلا أن هناك نقصًا في التخطيط للعناية بالمباني وتنظيفها.
وأكدت عبد البرّ، "بأنه يجب أن تتغير أشياء فيما يتعلق بإدارة الآثار في المدينة، حيث تكون الأمور على ما يرام عندما يكون هناك مشروع للحفاظ على الآثار، ولكن بعد انتهائه، لا يتم وضع خطة عناية تتبعه".
إنّنا نمتلك العديد من المساجد التاريخية في القاهرة، ولكن القليل منها فقط هو ما يبدو في حالة جيدة، فمسجد السلطان حسن، والذي يعد الهرم الرابع، يحتاج إلى تدخل سريع وفوريّ، وليس مجرد مشروع للحفاظ عليه، ولم أرَ أي خطة صيانة تُوضع لهذا المسجد الضخم المهيب، ولا أقول بأنها مهمة سهلة، بل هي مهمة شاقة، ولكن على امرئ ما أن يبدأ من مكانٍ ما.
بقلم: موردو ماكلويد