صالح العزاز: محترِفُ الكتابةِ بالكاميرا والتصويرِ بالكلمات
حضر مبكراً، يوم كان فضول العدسة مستثقلاً، ومستنكراً، لكنه استجمع شجاعته وبدّد سحب القوالب الجاهزة، وأعاد تقديم مجتمع الجزيرة العربية على سجيته وألفته وتنوّعه وثراء مضمونه.
رجل اسمه صالح العزاز؛ كانت لديه علاقته الأثيرة مع الصحراء والطبيعة البِكر، أعاد تعريفهما لدى الناس، شارك في توثيق بعض الأحداث المفصلية في التاريخ الاجتماعي، وكان لا يأبه بما سيكلفه ذلك من دفع فاتورة ثقيلة وهو يجيب نداء الشغف، نداء المهنة، نداء أفكاره الجريئة.
في سنة 1959 ولد العزاز، وتربى في منطقة القصيم، تلك المنطقة الممتعة بصريًّا، حيث تسافر العين في الأفق البعيد بين السهول الممتدة على منتهى النظر، وترتحل العين بين واحات النخيل والرمال الحمراء؛ و ربما تكون هذه البيئة هي الحاضنة الأولى للطريق التي قادت صالح العزاز ليوثق علاقته بعدسة الكاميرا، ويصبح فيما بعد مصوّرًا فوتوغرافيًّا. فضلًا عن المحيط الفسيح ذي التدرجات اللونيّة المثيرة، كان لصالح جدّة تعرف كيف تحكي لتفتح ذهن حفيدها على عالم من الجمال، مليء بالصور، تلك الصور التي تطلقها العجوز الخبيرة في فنّ القصّ، على شكل كلمات وجمل ولحظات صمت، فيحولها ذهن الحفيد إلى صور مركّبة تستوطن مخيلته وتغريها بالتشكيل، مما قاده ليكون مصوّرًا محترفًا، كامتداد طبيعي لمهرجان الصور المتراكمة في ذاكرته المحنّطة.
في كلية الهندسة بجامعة الملك فيصل لم يجد صالح شغفه، فاختار طريق الصحافة، وامتهن الإعلام الذي اشتغل فيه سنوات قبل أن تسلمه الصحافة المكتوبة إلى التصوير الفوتوغرافيّ، الذي طبع حياته المهنيّة، وعُرف به على امتداد تاريخه المهنيّ، الذي لم يكن طويلًا، ولكنه كان ثريًّا.
بدأ العمل الصحفي في صحيفة اليوم، متدربًا ثم مساعدًا في التحرير، ثم محرّرًا رئيسيًّا، وتدرج فيها حتى أصبح رئيسًا للتحرير بالنيابة، أسلمته جريدة اليوم إلى مجلة الغرفة التجاريّة التي تولى رئاسة تحريرها، كما اشتغل في كل من "الشرق الأوسط" ومجلة "المجلة" و "القبس" الكويتيّة.
الصورة بالنسبة لصالح ليست مجرد صورة فوتوغرافيّة، بل إنّها فلسفة، ولها أبعاد فكريّة، فهو لا يصور من أجل متعة ذاتيّة، أو رغبة في تخليد الجمال فقط، بل يصوّر ليقدّم رأيًا، وليسجّل موقفًا. عندما ذاع صيته مصوّرًا، كانت السعوديّة تعيش في عزّ فترة الصحوة، حيث كان كلّ شيء محرّمًا تقريبًا، ولم تكن الصورة بمعزل عن النظرة الدونيّة المستشرية حيال الفنّ عمومًا، ولكي يعيش المصوّر صالح العزاز موهبته كان عليه أن يحارب، أن يقاوم، أن يثبت وجوده، وتعرض مقابل ذلك لهجمات من الذين يكرهون طريقته في التفكير، ويرفضون أفكاره التي وصفت بأنها "جريئة أكثر من اللازم".
مع التصوير الفوتوغرافيّ الذي نال من بوابته شهرته الواسعة، لم يتخلَّ العزاز عن الكتابة، فقد واصل كتابة مقالاته في الصحف السعوديّة خاصّةً، والعربيّة بشكل عام، وهو في الحالتين لا يتخلى عن قدرته على التصوير؛ فمرّة يصور بعدسة الكاميرا، ومرّة يصوّر بالحروف والكلمات.
بوصفه مصوّرًا، شارك العزاز في الكثير من المعارض الدوليّة، حاملًاا الوطن بين جوانحه، والجمال في المساحة المنسابة بين حزمة الضوء وتفاصيل السعوديّة: شخوصًا، ومناظر؛ كما نظم معارضه الخاصّة، وكان من أبرزها معرض "بلا حدود" الذي أقيم في الصحراء المفتوحة سنة 2001، وفاز بعدة جوائز عالميّة، أهمها الجائزة الثانية في المسابقة المنظمة على هامش مهرجان الاتحاد الدولي للمصورين في الصين سنة 1997 .
صدر له كتاب "الجنادريّة الحدث" مع رفيق دربه حمد العبدلي، و "العودة إلى الأرض" وهو توثيق للبناء بالطين، أمّا أهم كتبه على الإطلاق فهو ذلك الذي أصدره بالتعاون مع الشاعر البحريني العالمي قاسم حداد بعنوان "المستحيل الأزرق" بالعربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة، و هو تداخل عجيب بين الصورة الفوتوغرافيّة والقصيدة.
بعد تجربة مرَضيّة مفاجئة، استمرت حوالي سنة ونصف، كتب خلالها أروع مقالاته المنشورة في الشرق الأوسط، رحل العزاز بعد عمر من تكثيف الضوء واستغلال الكادر الفوتوغرافي، ليرسم بلده السعوديّة بلون الجمال، عمر يختصر تاريخ رجل أعطى كل ما في استطاعته ليخلد أفكاره على شكل صورٍ ضمنها كل ما يريد قوله، رحل وقد أضحت السعودية متغيرة وتعيش مرحلة مختلفة، ولا يسعه أن يوثق بعدسته هذه التفاصيل المهمة، مثلما فعل بتوفيره ذاكرة رصينة عن مرحلة ما من عمر المجتمع وتاريخه الثقافي.