في عالم اليوم، حيث الأضواء مسلطة على اقتصادات الدول وتكنولوجيّاتها، وحيث النجوميّة محجوزة لمؤسّسات المال، وشركات الإنتاج، ومعاقل التكنولوجيا، هناك جنديٌّ مجهول يواصل بلا كللٍ أو مللٍ مهنته المقدّسة التي ارتبط بها، وارتبطت به، منذ آلاف السنين: الزراعة.
منذ العصور الأولى للإنسان، كانت الزراعة تمثّل انتقالًا من حالة الارتحال المستمرّ إلى حالة الاستقرار والنَّماء، وهي تأخذ اليوم أبعادًا أخرى، تتجاوز أهميتها الذاتيَّة إلى كونها تلعب دورًا محوريًّا وجوهريًّا في اقتصاد العالم واستقْراره. إن الأمن الغذائيَّ الذي تضمنه الزراعة - باعتبارها المصدر الأساسيَّ للغذاء - هو أشد أشكال الأمن أهميّة واستراتيجيّة. وإلى جانب ذلك فقد أصبحت الزراعة مرتبطة بالقطاعات الاقتصاديّة الأخرى، على مستوى الإنتاج من ناحية، وعلى مستويات التشغيل وإقامة المشاريع وتحريك الدورة الاقتصاديّة من ناحية أخرى. ولئن ارتكز القطاع الزراعي في نموه واستمراره على عواملَ أساسيةٍ، لعل أهمها العامل: الماديّ، والتقنيّ، والطبيعيّ، والبشريّ، فإنّ العامل البشريّ كان - وما زال - العاملَ الأساسيّ الذي يدور حوله البقيّة، ويا له من تناقضٍ بيِّن ظاهر الحجم وواقع الأهميّة.
لقد حافظ المزارع على موقعه الجوهريّ في قلب هذه المعادلة، واحتفظ لنفسه بدور البطولة، وسط تقلبات الزمن، واختلاف أنماط الزراعة، وأشكال العلاقة بين الإنسان والأرض. حتمًا مرت هذه البطولة بفترات من التهميش، عبر التركيز على قطاعات أخرى عرفت كيف تستحوذ على اهتمام الناس، وعبر تسليط بعض الضوء على التكنولوجيا ورأس المال، وتضخيم دورهما في القطاع الزراعيّ، مقابل تهميش دور اليد العاملة وتحجيم أثرها. إلا أن الارتباط الروحيَّ والتاريخيَّ بين الأرض والإنسان رجّح كفة العامل البشريّ على بقية العوامل: الماديّة، والتقنيّة، والطبيعيّة، وحافظَ للمزارع على بطولته ورمزيّة دوره، وإن اتسمت الممارسة بالبساطة في أكثر الأحيان.
إن المزارعين هم أبطال الأرض بلا منازع. في خشونة أكفِّهم من أثر الفؤوس والمحاريث، وتشقّق أرجلهم من مشقّة العمل والسعي، وتبكيرهم للعناية بالأرض، وريها في ساعات الصباح الأولى، وصبرهم لأسابيع، وشهور، وحتى سنوات، على جني ثمار تعبهم، تتجسد معاني البطولة، وتتجلى روح الأرض وما تختزله من قيم إنسانيّة.
قد تبدو مهنة المزارع بسيطة تقليديّة للوهلة الأولى، ولكنها النواة الأساسيّة التي يقوم عليها المشهد بأكمله. إن اجتماع رأس المال والتكنولوجيا، ما كان له أن يقنع الأرض بإخراج كنوزها، لولا لمسة المزارع الحانية، ولولا ذلك التفاعل الكيميائيّ الذي يحوّل الأرض إلى وطن حقيقيّ. وإنّ صورة المساحات الخضراء الشاسعة كما نراها من عليائنا لَتبقى ناقصةً، طالما لم ننزل في تفاصيل الصورة لنصل ببصيرتنا قبل بصرنا إلى رؤية أصحاب الفضل الحقيقيّين في ذلك.
لطالما كانت الأرض وزراعتها صمام الأمان للدُّول، على اختلاف أشكالها وأزمنتها. وقد انطلق العالم منذ ثورته الصناعيّة الكبرى في مدارات جديدة، قوامها: الطاقة، والإنتاج، والتكنولوجيا، والخدمات، إلا أن الزراعة بقيت على الدوام رقمًا ثابتًا وقطاعًا استراتيجيًّا. ولئن انتقلت الوظيفة الأساسيّة للعامل البشريّ إلى قطاعات الإنتاج والصناعة، بقيت مجالات الزراعة ميدانًا خصبًا لليد العاملة، لتثبت من خلاله أن لعب دور البطولة لا يحتاج إلا إلى تشبُّع بنبل الرسالة، وإخلاص لأهمية الدور، وعمق البصمة. ولنا أن نتساءل في ظلِّ هذه التغيرات الكبرى التي تقود العالم نحو اتجاهات مستقبلية معقدة: هل سيحافظ المزارع على بساطته وعلى نضارة ارتباطه بالأرض؟ وإلى أي مدى يمكن للبطولة أن تصمد في وجه عواصف الأتمتة والميكنة وتغوُّل التكنولوجيا ورأس المال؟ لتجيبنا الأرض التي اختارت فارسها، ولا تبدو أنها مستعدة لاستبداله، على الأقل في الوقت الحاضر.