حرره: ماثيو تلير–  أرامكو العالمية (Aramco World)

ترجمة: فريق إثراء

 

            قدّم لي مركز الملك عبد العزيز الثقافيّ العالميّ "إثراء" نفسَهُ، مصدرًا رائدًا  من مصادر طاقة الإبداع، والثقافة، والمعرفة، في المملكة العربيّة السعوديّة؛ وأسرني بفنّه المعماريّ المُدهش، الموغل في  الحداثة، وبهنْدسته المستوحاة من ترتيب بسيط للحجارة.

 

كانت المكتبة هي ما يشدني دومًا ويعيدني

 

      عندما تجولت في تلك المكتبة - ذاك المكان الأثير، العصريّ، الأبيض، الهادئ، والمُضاء بأشعة الشمس التي تنفذ من كوة في السقف، وتنسكب على القاعة المحاطة بسرب من الشرفات البيضاء - وجدتني مشدودًا إليها؛ فلم أكتفِ بالتجوّل، بل ألقيتُ عصا الترحال وقرأتُ، وكتبتُ، ومارستُ أحلام اليقظة هناك. واقفًا بين الأرفف البيضاء الطويلة، التي تحتوي على الكتب العلميّة، أو جالسًا على كرسيّ مع رواية، تتناغم الأصوات من حولي، لتصبح صامتة وصاخبة في الآن نفسه؛ إنّها تشبه طوفانًا هادرًا على سطح بحر دافئ: هكذا تبدو المكتبة صوتيًّا: مكانًا مُعدًّا للتفكير، ومفتوحًا على خياراتِ: الصمت، والصخب، ومنزلةٍ بين المنزلتين. 

 

 

المكتبة الموجودة في الظهران، في شرق السعوديّة، جزءٌ من كلٍّ، زاويةٌ من تحفة معماريّة، تسمى رسميًّا مركز الملك عبد العزيز الثقافيّ العالميّ، ومعروفة أكثر باسمها العلم "إثراء".

 

     يضم مبنى إثراء برجًا مكونًا من 18 طابقًا، مرتفعًا عن مستوى مجموعة من البنايات الدائرية الأكثر انخفاضًا، مكسوّة بأنابيبَ فولاذية لامعة، ومتموضعة في مساحة بيضاويّة خضراء بين الطرق السريعة والصحراء.

 

افتتح المركز للعامّة سنة  2018م، ووفقاً لمجلة التصميم الدولي وولبيبر (Wallpaper*) فهو "القطعة الأكثر تقدميّة من المعمار المعاصر" في المملكة العربيّة السعوديّة.

 

تعود فكرة وتأسيس وبناء إثراء إلى أرامكو، شركة الطاقة والكيماويّات السعوديّة. وقد يبدو هذا المزيج غريبًا، إذ لا ينسجم إنتاج البتروكيماويّات بشكل طبيعيٍّ مع الإثراء الثقافيّ. لماذا فكّرت  أرامكو السعوديّة بهذا المشروع؟ ولماذا لم تنجزه  في الرياض أو جدّة؟ فكلا المدينتين أكبر وأكثر أهميّة ثقافيّة. وإلى مَن يتوجه إثراء؟

 

  تهتم الشركات الكبيرة بفكرة المسؤوليّة المجتمعيّة، وتأخذها على محمل الجدّ بشكل متزايد؛ و بحسب تقرير غير مدعوم ماديًّا، في عام 2015م، تصرف أكبر 500 شركة حوالي 20 مليار  دولار أمريكيّ، مجتمعة في العام، على مشاريع تدعم المجتمعات والحملات المحليّة المخصّصة للصحّة والتعليم والثقافة، لا تعود على الشركات بنفع ماديّ مباشر و فوريّ. رغم ما يحمله هذا الصرف في واجهته من نيّات حسنة، إلا أنه قد يكون مجرد إدارة تسويقيّة بحتة للعلامة التجاريّة. ويمكننا أن نتساءل فيما إذا كان هذا ما حدث في الظهران.

 

       لكن قصة المبنى، والأشخاص الذي أشرفوا على تحقيقه، تُظهر أن النفع الذاتيّ إن كان هدفًا وحيدًا ما كان ليستمر في مشروع كهذا على مدى السنوات الاثنتي عشرة، التي استغرقها ليتحول من فكرة إلى واقع ماثل للعيان.

    

 
 

أصعب مدخل هو سؤال البدايات، كان علينا أن  نسأل: كيف بدأ المشروع؟  "تقول المديرة الاستراتيجيّة فاطمة الراشد: "تختلف البداية من شخص لآخر، لقد أصبح هذا المشروع شخصيًّا جدًّا بالنسبة للكثرين منّا، لذا فكل واحد قد يخبرك بنقطة بداية مختلفة".

 

بدأت مها عبد الهادي بضرب يديها على مقعدها وهي تبتسم في ابتهاج:

 

"إثراء هو أحد أفضل الأعمال التي أنجزتها أرامكو"

 

تترأس مها عبد الهادي معرض الطاقة، الذي تأسس قبل إثراء، والذي أصبح الآن جزءاً من المركز الثقافيّ الأوسع، على الرغم من كونه يقع على بعد مئات الأمتار من مبنى إثراء الرئيسيّ.

 

      افتتحت أرامكو المتحف منذ الخمسينات، وكانت المعروضات حينها تركّز بشكل مباشر على النفط. حيث كانت تشرح عمليات: التنقيب، والفصل، والتكرير، والشحن، وغيرها، بشكل كبير لتلاميذ المدارس الذين يأتون ليتعلموا دور أرامكو التاريخيّ: الدمام بئر رقم 7، وهو الحقل الذي بدأ منه تدفّق النفط السعوديّ بكميات تجارية لأول مرة في عام 1938م موجود بالقرب من هنا.

 

في الثمانينات، نُقل معرض النفط – كما كان يسمى منذ مدة طويلة -إلى موقع بجانب مجمع شركات أرامكو، والتي تقع بين المدينتين الساحليتين المتاخمتين حالياً- الدمام والخبر. ثم أعيد تشييده وأطلق عليه "معرض أرامكو"، وأضيفت إليه مقتنيات ثقافيّة وتاريخيّة. لاحقا رُممَ المبنى من الداخل، إلا أن الهيكل بقي كما تم افتتاحه في عام 1987م: واجهة زجاجيّة، وواجهة رخاميّة، وأقواس خرسانيّة مسبقة الصنع.

 
 

 

وعلى مدى سنوات ظل المعرض أحد المتاحف القليلة على مستوى المنطقة الشرقيّة في السعوديّة، وأصبح مصدرًا حيويًّا ذا شعبية كبيرة، إذ يتسقبل سنويًّا حوالي 200,000 زائر، مما عكس الإقبال المجتمعيّ على المعرفة والتعلم.

 

تقول فاطمة الراشد "أذكر حين كنت طفلة مروري بمكتبة الدمام العامّة، لكنني لم أدخلها أبدًا، كانت قديمة جدًّا ودائمًا ما بدت مغلقة، المشاركة العامة في الثقافة في ذلك الوقت (السبعينات والثمانينات) كانت منخفضة، حيث كان يوجد متحف خاص في منزل صغير، يضمّ قطعا أثريّة، وبعضَ الحرف، بالإضافة لمعرض أرامكو، كان هذا كل شيء".

 

تصف فاطمة التغييرات الجذريّة التي اختبرها المجتمع السعوديّ في التسعينات: بدأت الأجيال التي حصلت على تعليم عالٍ في بلادها أو في الخارج بالحصول على مناصب قياديّة. لقد بدأ الإدراك، كما تقول، بأنّ شح الموارد الثقافيّة والاجتماعيّة بالنسبة لكل الفئات العمريّة، وتحديداً فئة الشباب، كان ذا تأثير مدمر.

 

"السعوديّة بلدٌ يافع"، تتابع الراشد: "عندما بدأت      الدولة في 1932م كان التركيز منصبًا على البنية التحتيّة، دون الأخذ في الحسبان بعض المفاهيم التي ستسهم في التطوير المستقبليّ، مثل مدى حبّك لمجال عملك، وانتمائك للعمل الذي تمارسه. ثم ظهر لاحقًا اهتمامٌ وتركيزٌ على التفاعل مع اليافعين، قبل التحاقهم بالعمل؛ كان الأمر شبيهًا بمنصات تسمح للأشخاص بالتجريب، ومعرفة ما الذي يرغبون بعمله، قبل أن يتخذوا قرارًا يمكن أن يؤثر على بقية حياتهم"

 

 توارد خواطر وأفكار فاطمة الراشد، وتوافقها  مع التغيرات المتتالية في ثقافة أرامكو، ومع الأحداث التي شهدها  البلد على نطاق أوسع؛ ذلك التوارد، وهذا التوافق، قد يشكلان مدخلًا ممتازًا لقصة إثراء.

 

"كنت أول مدير غير مهندس لأرامكو" يقول عبد الله جمعة، وهو جالس على كرسيه في بهو فندق في الخبر، ويداه تراوحان بين المكوث والحركة. "درست السياسة والفنون الليبراليّة. وكنت عضوا فعالاً في المسرح المدرسيّ".

 

أصبح جمعة المدير التنفيذيّ لأرامكو في 1995م.

 

"كنّا ننفتح على العالم، ونتحرك لتحويل أرامكو من شركة محليّة إلى مؤسسة دوليّة متكاملة في مجال الطاقة. قلت إنه يمكننا ذلك فقط إذا أخذنا زمام المبادرة لتغيير عقول وقلوب الأجيال القادمة.  كنّا نريد الانفتاح على العالم ، رغم أنه كان  هنالك آنئذ توجه من البعض يسعى إلى وضع بلادنا  داخل  شرنقة".

 

    وكان يتذكر كيف أتاحت له سفريات العمل المتكررة الوقتَ ليتفكر في الانغلاق الاجتماعي المتعمق في بلاده.

 

"اعتدنا أن نحمل الكثير من الكتب إلى الطائرة –       روايات، وتاريخ، وشعر. كنت أفكر أنه لو أمكننا (فقط) تشجيع الأفراد على القراءة، وغرس بذور جديدة في عقولهم".

 

يمتلك الفنّ المعماريّ القدرة على توسيع آفاق الناس، و نحن دائماً نبحث عن الثقافة كموجّه لنا. - KJETIL TRÆDAL THORSEN

 

"كان إثراء هو فكرة عبد الله جمعة". يقول فؤاد الذرمان، مدير مكتب جمعة بين 2004م – 2008م، وشخصيّة مهمة في أرامكو ساهم في تطوير المشروع.

 

حدد الذرمان كيف غيّرت أحداث 11 سبتمبر 2001م الأولويات الوطنيّة في السعوديّة، مما طرح أفكار منصات جديدة، لتشجيع التسامح والتنوّع. بدأت أرامكو السعوديّة بتوسيع مسؤوليتها الاجتماعيّة وبرامجها المجتمعيّة، من برامج صغيرة، ضيقة النطاق في الخبر والدمام – كتنظيف الشوارع، وتنظيم النزهات لصالح الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة – إلى تعبيد الطرق، تسهيلًا للوصول والتواصل مع المجتمعات المجاورة؛ إلى  التفكير في بناء متحف جديد ذي طابع تاريخيّ،  بدل معرض أرامكو، لكن المشروع تأجل في 2004م.

 

في سنة  2006م،  اقتُرِحَت فكرةُ مركز دائم مبنيّ من قبل أرامكو، ومخصّص للثقافة بشكل واسع.

 

في 15 مايو من نفس السنة، كان جمعة يقود سيارته في رحلة لمدة ساعة نحو الشمال، من الظهران إلى منشأة لأرامكو في الجعيمة، إلى جانبه عبد الله السيف، الذي كان حينها نائبًا أولًا لرئيس الاستكشاف والإنتاج، وخلفه  يجلس الذرمان.

 

يتذكر الذرمان أن تلك الرحلة كانت  بعدما نشر الصحفيّ السودانيّ جعفر عباس آخر جزء من ثلاثيّة مقالات رأي في صحيفة "اليوم"، روى فيها قصة وصوله إلى السعوديّة في أواخر السبعينات موظفًا شابًّا في أرامكو، وكيف أنه استخدم مكتبة الشركة العامة الصغيرة للقراءة بنهم لبناء معرفته.

 

"أخبرنا السيد جمعة أنه قرأ هذه المقالة" تذكَّر الذرمان. "قال لنا ما تحتاجه أرامكو هو بناء مكتبة، مكتبة على مستوى عالمي".

 

في شهر أغسطس، وبينما كانوا في اجتماع في سويسرا، اصطحب جمعة الذرمان للمشي بجانب بحيرة جنيف، وجاءت فكرة "مكتبة على مستوى عالمي"، كان جمعة يفكر في كيفيّة إقناع مجلس إدارة الشركة بالموافقة على فكرة غير تجاريّة ولا ربحيّة كهذه. اقترح الذرمان ربطها بالاحتفال بالذكرى التأسيسيّة الـ 75 لأرامكو، والتي ستكون في مايو 2008م.

 

لولا جمعة، لربما فشل مشروع  إثراء في الحصول على هذا الدعم الكبير. ولولا الراشد -وغيرها كما سنرى- لما بدا إثراء بهذه الجودة والكفاءة اللتين تميزانه اليوم. ودون اقتراح الذرمان، لربما بقي إثراء مجرد فكرة.

 

"لقد كنت مهتمًا بشكل شخصيّ" يقول الذرمان، و هو مدير موظفي الرئيس التنفيذي لأرامكو. "إنها شركة لبناء الدولة وضمان الازدهار العالمي؛ تمتلك تفويضًا تجاريًّا، لكن مسؤوليتها تتجاوز منشآت الطاقة وبنيتها التحتيّة، إلى أن تخلق "مجتمعًا معرفيًّا"، وتسهم في تطوير الإنسان السعوديّ. إذا فكرنا بأفراد المجتمع الذين لا يتقاضون راتبًا مباشرًا من  أرامكو.. ترى ماذا يمكننا أن نقدم لهم؟".

 

إجابة هذا السؤال تقودنا حتمًا إلى الإحساس بوجود مهمّة أخرى، علينا القيام بها، تلك المهمة هي مبرر وجود "إثراء". يلخّص الذرمان رسالة إثراء في ثلاث سمات. الأولى هي المعرفة والرغبة في "خلق مجتمع محب للكتب كونها بوابة للانفتاح الفكريّ".

 

ثم يأتي الإبداع. "لتكون مبتكرًا، يجب أن تفكّر خارج الصندوق". ويضيف الذرمان: "كيف يمكنك أن تخلق ثقافة تدعم التجربة، وتبني على الخطأ والفشل والمثابرة نجاحًا؟".

 

المكون الثالث هو تشجيع التسامح والتنوّع الفكريّ في المجتمع السعوديّ وخارجه. "هنالك الكثير من سوء الفهم  المنتشر عن السعوديّة"، يؤكد الذرمان. "نريد لثقافتنا أن تكون جزءًا من ثقافات العالم المتعددة، لكي نفهم الآخر ويفهمنا".

 

لكنه أضاف: علاقات إثراء بالمجتمعات المحليّة مهمة للغاية. "نحن لا نقوم بهذا العمل من أجل العلاقات العامة، وظهور  المملكة بصورة جيدة؛ بل من أجل تغيير التفكير جذريًّا".

 

 

 

بعد جنيف بعدة أشهر، وفي نوفمبر 2006م، رافق الذرمان جمعة في رحلة عمل إلى ميلانو في إيطاليا.؛ وهناك حضرا معًا افتتاح موسم لاسكالا للأوبرا.

 

أحب جمعة الموسيقى، تذكّر الذرمان. وبينما كانت طائرة عودتهما تستعد للهبوط ، مال الذرمان نحو جمعة وذكّره بأن الساعة بدأت تدق، وأنه بعد 18 شهرًا فقط، يجب أن تبدأ الشركة بالتخطيط للذكرى التأسيسيّة الخامسة والسبعين، بما في ذلك تحديد رؤية لـ "المكتبة ذات المستوى العالميّ". ومع هبوطهما، وافق جمعة وأعطى الضوء الأخضر  للشروع في الأمر.

 

"نعم" قال الذرمان مبتسمًا: "يمكنني القول إنه كان للاسكالا تأثير مُلهم!".

 

تطور التفكير في المكتبة بسرعة، كان ينقص منطقة الظهران قاعةُ محاضرات، حيث يمكن للمديرين التنفيذيّين في أرامكو على سبيل المثال عقد اجتماعات كبيرة. بدا ذلك إضافة مهمة، ولم تكن في المنطقة قاعة للاحتفالات حيث يمكن للشركة استضافة احتفالات مهيبة، فتم إضافة واحدة.

 

ولكن منطق الإبداع قال إنه يمكن لقاعة المحاضرات أن تتطور لتصبح مسرحًا، وتتسع قاعة  الاحتفالات لتكون مساحة للمعارض. "شيئًا فشيئًا كنا نضيف بعض المكونات الأخرى للمكتبة" قال الذرمان. "الأمر الذي قادنا في نهاية المطاف إلى  تصوُّرِ مركزٍ للفنون والثقافة".

اقترح التفويض المكون من صفحتين، الموقّع من قبل جمعة بتاريخ 6 ديسمبر 2006م "بناءَ مركز ثقافيّ عالميّ، مع مكتبة عامة كبرى، ليتم دمجه مع (معرض أرامكو) - الموجود سلفًا - مساهمةً جوهريةً من أرامكو السعودية تجاه المجتمع المحلي".

حوّلت تدخلات الذرمان الأفكار من رأس مديره إلى الورق. أقرّت المذكرة المركز الثقافيّ ليكون مهمة رسميّة ضمن مهام أرامكو، وأوكلت تطويرها إلى المدير المسؤول عن  احتفالية الذكرى الـ75 للشركة، ناصر النفيسي (وهو مساعد كبير للملك سلمان حاليًّا).

أدلى النفيسي وفريقه بدور كبير في تطوير الأفكار، والمضي بها قُدمًا إلى الأمام، وفي 25 مارس 2007م، كتب جمعة إلى وزير النفط والثروات المعدنيّة (والمدير التنفيذي لأرامكو سابقًا) المهندس علي النعيمي، ليشرح له كيف ستحتفي آرامكو بإرث الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس السعوديّة، وأول ملوكها؛ كجزء من احتفالها بمرور ثلاثة أرباع قرن على تأسيسها. حينها وافق الملك عبد الله على وضع  الحجر الأساس للمركز الثقافيّ المقترح.

 

المشكلة التالية كانت هي كيفيّة بناء هذا الشيء.

"أرامكو شركة مولعة بالكفاءة والجودة في التشغيل" يقول الذرمان؛ "لا يمكنك أن تسعى إلى  الابتكار والإلهام، ثم تقنع ببناء عادي. يجب أن يكون تصميمًا يحبس الأنفاس، ويثير مشاعر التعجب والاستكشاف، وأن تكون هندسته المعماريّة رسالة مقروءة".

بدأ فريق الذكرى التأسيسية الـ75 لأرامكو يخوض واحدة من أولى المنافسات التصميميّة الدوليّة في السعوديّة، مستقبلين عروضًا من معماريين من جميع أنحاء العالم.

 سنوهيتا (Snøhetta) النرويجيّة، التي كانت قد أنجزت في ذلك الوقت مبانيًا عديدة، من ضمنها مكتبة الإسكندريّة في مصر؛ كانت إحدى الشركات التي استجابت للمناقصة.

"أول ما لفت انتباهنا هو طموح المشروع" يقول كجيتيل ترادال ثروسن، الشريك المؤسس في سنوهيتا. "للفن المعماريّ القدرة على توسيع آفاق الناس ونحن دائمًا نبحث عن الثقافة كموجّه لنا".

خلال النصف الثاني من 2007م، قاد النفيسي فريقه في تطوير نطاق للمشروع، وتقليص العروض المتقدمة من 36 إلى 6، وتكوين هيئة تحكيم دوليّة لتقييم العروض المختصرة من ناحية التكلفة ومعايير البناء والوظيفيّة، والاستدامة والجمال.

التقت هيئة تحكيم التصميم في ديسمبر. رغم أنهم استبعدوا ثلاثة من المشاريع الستة، إلا أنهم لم يتمكنوا من الاتفاق على فائز واحد من الثلاثة المتبقين.

بعد خمسة أشهر سيكون الملك في الظهران ليضع حجر الأساس، لكن حجر الأساس لماذا بالضبط؟ لم يكن هنالك وقت ليعيد المعماريّون الثلاثة النهائيّون  تشكيل وتقديم تصاميمهم، ولا وقت لجلسة تحكيميّة جديدة، تضمن الموافقة على المشروع من قبل مجلس إدارة أرامكو.

"وصفها باللحظة الصعبة هو تقليل من شأنها" يقول الذرمان، والذي كان من ضمن هيئة التحكيم.

بعد ذلك بوقت قصير، كلفه جمعة بمهمة دفع عجلة المشروع للأمام.

في بداية يناير 2008م تسلم الذرمان الإدارة،  يقول "لن أقول إن المهمة كانت مرعبة، ولكنني كنت أمام تحدٍ كبير".

كانت مهمته الأولى هي اختيار تصميم. نظر في  العرض المقدم من قبل المعماريّ الدنيماركيّ رم كوولهاس؛ ووجده أقل من طموح أرامكو. وبالتالي أصبح الأمر محصورًا بين آخر مقترحين، يوضح الذرمان.

التصميم  الأقل كلفة كان من سنوهيتا. حيث اقترح مهندسوها مجموعة مجردة من الأشكال المعدنيّة المعكوسة، والمتجمعة على سطح الصحراء. أعجب الذرمان بذلك لكنه كان متخبطًا. وصف بعض أعضاء هيئة التحكيم فكرة سنوهيتا بالتصميم الغربي  الغريب على  السعوديّة، وكان العرض الذي لاقى شعبية كبيرة  لدى إدارة أرامكو هو الفكرة الدراميّة الخاطفة المقدمة من قبل المعماريّة العراقيّة البريطانية زها حديد.

لكن الذرمان وفريق إدارة المشروع كانوا يميلون إلى سنوهيتا، حيث استشعروا مرونة وسلاسة في تصميمهم، وهما عنصران مهمان جدًّا في بناء ضخم كهذا.

اقترحوا تصميم سنوهيتا على عبد العزيز الكيال، النائب الأول لرئيس العلاقات الصناعية في أرامكو، ورشحوه بوصفه تصميمًا من أكثر التصاميم القابلة للنجاح. في الشهر التالي، فبراير 2008م، وقعت الشركتان العقود.

في سنة 2019م، نحاول العودة للوراء قليلًا مع ثورسون، الذي بدت على محياه  ابتسامة خفيفة وهو يجيبنا:  "لو كنت بكامل حواسي، لما بدأت هذا المشروع، لقد قللت  من شأن التعقيد؛ لأننا لو قمنا بتحليل المخاطر جيدًا، لربما كنت فكرت ألف مرة قبل أخذه. كان ينطوي ببساطة على كثير من التحديات... لكنّنا لم نعتبر أن التعقيد هو أمر لا يمكننا تجاوزه".

توسع ثورسون وروبرت غرينوود، وهو شريك آخر في سنوهيتا، بالحديث عن الفلسفة التي تقود منهجيتهم في مجلة Architectural Design(التصميم المعماري). "بينما تستعمل أوروبا تاريخها لتحديد الحداثة والمعاصرة، تفضل مجتمعات الشرق الأوسط النظر للمستقبل لتشكيل حاضرها، وتجنب النظرة الغربيّة السطحيّة في الجماليّات. فبدلًا عن ذلك، غالبًا ما توجد الحلول فيما ينقله تراث الزخرفة التقليديّة من عواطف وأحاسيس ثريّة".

ولقد تحقق تصميم سوهيتا الفائز في مبنى إثراء كما هو موجود اليوم، رغم أن الفكرة الأساسيّة قد تعرضت لتغييرات بعيدة المدى خلال عمليّة تنفيذ التصميم التي دامت لسنتين. يرتكز التصميم على برج بارتفاع 112 متراً، ذي حجم ضخم غير منتظم، يبدو وكأنه بلا نوافذ، مصنوع من الفولاذ ذي الحواف المنحنية، مخطط وغامض، كأنه حجر  وضع رأسيًّا هنا ليحدد مكانًا هامًّا. تحيط به ثلاثة أشكال مستديرة منخفضة وأنيقة، تشبه الصخور التي نحتتها الرياح. و بين البرج وأحد المجسمات المحيطة به يتراءى بناء صغير، لامع، ومنحنٍ على شكل صخرة ساقطة وعالقة في الوادي، البناء الوحيد الذي يمتلك نافذة واضحة.

ترتبط "الصخور" الخمسة داخليًّا لتشكل مبنى واحدًا، بالإضافة لمعرض الطاقة الموجود مسبقًا بجانبها، تتموضع جميعها في مشهد لا سياق له تقريبًا؛ فالأبنية الوحيدة الموجودة ضمن كيلومتر واحد هي وحدات صناعيّة، ومرافق منشآت ومشفى.

لماذا الصخور؟

يقول الذرمان "هنالك فرق صغير لكنه مهم بين كيفية شرح سنوهيتا وشرح أرامكو للتصميم".

تتحدث سنوهيتا عن إيجاد الإلهام في الحجارة المنتشرة في الصحراء، والتي تميل على بعضها بعضًا، بشكل يمثّل عمل الفريق والدعم المؤسسيّ.

يقول ثورسون "اعتمدت أشكال الأحجار على الإلهام الفكريّ، فهي تتحدث مع بعضها". ويستشهد برواية الكاتب الإيطالي ايتالو كالفينو"المدن غير المرئيّة" في عام 1972م، والتي تتخيل المستكشف ماركو بولو وإمبراطور الصين كوبلاي خان وهما يتناقشان حول بنية القوس الرومانيّ.

"للقوس الروماني حجر أساس يربط كل الأشياء معًا. إذا أزلت ذلك الحجر، سينهار القوس. وعلى غرار ذلك، قمنا بتصميم سلسلة من"الحصى"  تمسك بعضها ببعض، تتداعى على أصغرها وهو حجر الأساس؛ كأننا نقول بشكل صريح وواضح  إنه بإمكانك أن تكون قويًّا جدًّا حتى وإن كنت صغيرًا جدًّا".

أما بالنسبة للذرمان فقد كان ذلك الإسقاط "تجريديًّا جدًّا". وكان يشك أن هذه الفكرة ستلاقى صدى لدى الجمهور السعوديّ. في تحليله لتصميم سنوهيتا، بدأ التفكير برواية محليّة.

بدأ الذرمان أولاً بتفحص الكلمة الإنكليزية للنفط (petroleum). ففككها إلى مكوناتها اللاتينية: (petra) تعني صخرة، و(oleum) تعني نفط. الصخور تحتوي على نفط، ومن الواضح أنه يجب حفر هذا المبنى الجديد عميقًا في صخور أول حقل نفط في السعوديّة.

ثم خطرت له الاستعارة المثلى، صخور طبيعية تحتوي على طاقة النفط، والظهران هي المكان الذي أسهم نفطه في ازدهار الأمة، والآن"صخور" إثراء الحرّة المعماريّة، ستستغل طاقة من نوع مختلف – الطاقة البشريّة – لتبدأ مسيرة ازدهار وطنيّ جديد وقوده الإبداع.

 

"نحن ننقل ثقافتنا للعالم، ونريد أن ننقل ثقافة العالم إلى هنا" – عبد الله الراشد.

إذا نظرنا وفكرنا في رؤية إثراء، نجدها رؤية مستقبليّة وتقدميّة بشكل كبير، وهي أن نتخيل ونرى المملكة منارةً معرفيّة تُرى من كل بقاع  العالم، وتترك أثرًا ماديًّا ملموسًا على التطور البشريّ من خلال الإبداع، والمعرفة والمشاركة من بوابة الثقافات. – فاطمة الراشد، المدير الاستراتيجيّة.

بدأ المبنى يتطور فكريًّا – وتعاونيًّا -. وأصبح أحد التحديات هو كيفية التوفيق بين فلسفة ثقافة إدارة المشاريع في أرامكو - والمبنيّة على الأمان والتشغيل - وفلسفة المهندسين المعمارييّن وفريق أرامكو التصميميّ والذي يركز على فكرة إثراء أساسًا للتغيير.

وقد قدّر كل من الذرمان وجمعة مساهمات الراشد.

"لقد كانت فاطمة هي الجسر" يقول الذرمان. "لقد لعبت دورًا كبيرًا في التواصل مع سنوهيتا"

أشرك الذرمان الراشد – والتي كانت تعمل مصمّمةً في أرامكو – في يونيو 2008م. حيث بدأت عندها بالتنقل بين الظهران ومكاتب سنوهيتا في أوسلو، وشرعت في ذاك الخريف العمل في النرويج لمدة سنة ونصف، مع فريق إدارة المشروع كمحور ربط بين العميل والمهندس المعماريّ.

كانت مرحلة شهدت تشكّل المبنى بشكل أكبر على خلفية تعميق التفاهم بين الشركتين، حيث عملت الراشد على تنسيق التوقعات، والتي كانت مختلفة جذريًّا في بعض الأوقات.

تقول الراشد "كان كل وقتي مخصّصًا لإثراء، أعيش داخل عملية تفكير مستمرة"؛  كانت تركز على كيفية تعديل المبنى بشكل دقيق، بحيث يتوافق مع أهداف إثراء وبالعكس. وقد قاد الحوار الناتج عن ذلك إلى تغييرات عديدة، بما فيها على سبيل المثال نقلُ متحف الطفل من "حجر الأساس" – وهو الاسم الذي أطلقته إثراء على أصغر "حصى" سنوهيتا – وخُصصت تلك المساحة البارزة لما أصبح مختبرًا للأفكار ذات البعد الابتكاريّ  التكنولوجيّ.

تتحدث الراشد عن كيف أسهم  هذا الحوار الديناميكيّ والتغييرات المنفذة على إثره في جماليّات المبنى الداخليّة.

بحسب تصور سنوهيتا: "كانت جميلة ولكن باهتة، بلا ألوان ، يمكن اعتبارها إسكندنافيّة بسيطة للغاية، وكنت أريد إثراءها بالألوان والنقوش، تقديرًا مني وفهمًا لسياق المجتمع السعوديّ وثقافته، وفِي نقاشي مع فريق سنوهيتا لمستُ عدم اطلاع كامل لمصدر أفكاري، وهو أمر مبرر".

"خلال الأيام الطويلة من الصيف الإسكندنافي، بدأت أفهم، الطبيعة هناك غنيّة وديناميكيّءة جداً في الصيف، لا تغرب الشمس أبدًا. وترى تغيرات الألوان حولك كل ساعة. أخبرتُ سنوهيتا: "أنا أتفهم فكرتكم، أنتم تريدون تفاصيل أقل في الداخل لأنكم تملكون كل هذا في الخارج، لكن ما نملكه في السعوديّة هو لون رتيب من الرمادي والبيج الفاتح، لون الرمل. النقوش والألوان تغني خيالنا". وعندما بدأنا بهذه المحادثات، تمكنا من أن نجد حلًّا مشتركًا. وقد تفهموا ذلك بشكل كبير".

وبحسب ما عبر عنه شركاء سنوهيتا ثورسون وغرينوود، فقد "تمّ تجاوز الاختلافات الثقافيّة اعتمادًا على المشترك الفكريّ".

في أوسلو، قامت الراشد بطفرة فكرية أخرى، مقترحة على سنوهيتا أن يحتوي المبنى على فنّ متضمن في الهندسة المعماريّة. وبدأت هي وفريقها بتفويض فنانين ليبتكروا أعمالًا لأجزاء محددة من البناء. حيث يشع الآن حائط كبير في بلازا إثراء -المساحة الداخليّة المركزيّة الرئيسيّة- برسم ديكوريّ معاصر مستوحى من البلاط الإزنيقيّ التركيّ، والمصمم بواسطة استديو (Urban Art Projects) الأسترالي. في المكتبة، تزيّن كتابات النحّات المصري هاني فيصل بالخط العربيّ الدقيق كل محفظة للكتب. الجداريّة المفصلة الملونة في مقهى إثراء هي عمل الفنان السعوديّ الشاب يوسف الحمد. وستائر مسرح إثراء هي من عمل المصمِّمة الهولنديّة بيترا بلايس.

الفنّ مطلوب في كل تفصيل من تفاصيل المكان؛ نقاط التنقل حول البلازا -في المدخل إلى متجر الهدايا، في المطعم، في السينما- يمكن الاستدلال عليها بلوحات عموديّة ثابتة من حديد كورتن ذي اللون البنيّ، والتي تتموضع بشكل غير مباشر على خط الجدار؛ وكل بوابة من"البوابات التاريخيّة" السبع محفورة بأشكال منحوتة، تذكر بتاريخ شبه الجزيرة العربيّة، بدءًا من نقوش ما قبل التاريخ، مرورًا بالزراعة والتجارة وحتى الحداثة؛ كل ذلك من ابتكار المصمّمة الأستراليّة بليندا سميث.

تقول الراشد: "اعتمدت فكرة إغناء التصميم الداخليّ بالأعمال الفنيّة، والتي بدأت في مرحلة مبكرة من التصميم على رسالة بسيطة: للإبداع والتعبير دور أساسي في حياتنا اليوميّة. فهما ليسا للزينة فقط".

 

أمضيت ساعات في بلازا إثراء، أمشي وأتحدث وأجلس. يقود المدخل الرئيسيّ للمبنى-والذي يقوم بتوجيه الزوار - بعد الحرارة الشديدة في الخارج - بشكل هادئ باتجاهٍ واحد نحو ممرٍّ منحدر برفق – إلى البلازا، حيث يتجلى إثراء بنفسه، إذ تلتقي  "الصخور  الخمس" هنا. وهو مساحة واسعة غير منتظمة ومليئة بالحركة – "قرية من الأنشطة الثقافيّة والفنيّة" كما يصفها ثورسون.

يتابع الزوار جيئة وذهابًا، ويمرون ضمن نقاط الدخول إلى "الحصى". تحاكي الخطوط الداكنة للبلاط تحت الأقدام والخطوط الساطعة للإضاءة العليا نقوش المسطحات الملحيّة في الصحراء العربيّة والتي تعرف باسم السبخات: إنه لمن المغري اتباع الخطوط المتقاطعة كما لوكنت في ساحة المطار، ولكنّها، إمعانًا في الإبداع، لا تقودك إلى أي مكان بالتحديد.

يتدفق الضوء على البلازا من جهة واحدة، من خلال الحائط الزجاجيّ والمفتوح، ليس على الصحراء، وإنما على واحدة من ثلاث "واحات" – بلاط مليء بالماء في الهواء الطلق، والذي يحافظ على تواصل مع الخارج، رغم أن البلازا، مثله مثل أكثر من نصف هذا المبنى المعقد، يتوضّع في الحقيقة تحت سطح الأرض.

أفضى هذا الشعور بالاهتمام بالحقائق الخارجية من أرض وسماء إلى فكرة تصميميّة ثانويّة. بالإضافة لتسهيل الحركة عبر المبنى بشكل أفقيّ، صممت سنوهيتا تسلسلًا زمنيًّا  عموديًّا، من الماضي إلى الحاضر والمستقبل.

بالدخول إلى مستوى البلازا، كل شيء هو عن الحاضر: هنا المسرح، والسينما، والقاعة الكبرى -والتي تمثلت فكرتها سابقًا في قاعة الاحتفالات مع ساحة للمعارض- ومكتب الاستعلامات، والمكاتب الإداريّة، وواحة أخرى تمثل مساحة للأداء  الاستعراضيّ في الهواء الطلق، ومتحف الطفل بما فيه من أماكن للأنشطة واللعب، من البلازا، وعن طريق لوالب منحدرة نحو الأسفل، ملفتة حول القاعة المنارة بضوء النهار، إلى معارض المتحف الأربعة. كل واحد منها أعمق من سابقه، يأخذنا في رحلة أبعد في التاريخ. فيأتي أولًا معرض الفنّ المعاصر، ثم معرض التراث السعوديّ، ثم معرض الحضارة الإسلاميّة، ثم التاريخ الطبيعيّ والجيولوجيّ. وفي المستوى السفلي بعد ذلك يوجد معرض إرشيف، يعرض تاريخ أرامكو، الذي  نقل كاملًا  إلى إثراء.

في قعر اللولب، بثلاث طوابق تحت البلازا، توجد ساحة مغلقة، ذات نافورة مياه تنفتح على السماء، في المركز المخفي من المبنى، اسمها"المصدر"، وهو رمز عن بئر النفط، بئر الدمام رقم 7. ويتجلى مزيد من الفن: "نبع الضياء" هي منحوتة ضخمة للفنان الإيطالي جيوسيبي بينوني، يحاكي هيكلها الفولاذيّ البرونزيّ الأشجار، وترتفع لثلاثين مترًا نحو السماء.

ثم هنالك المستقبل. من البلازا، تتوجه أعداد متوالية من الزوار للأعلى، يُحملون بصعود مفتوح لثلاثة طوابق، على مصعد متحرك بطول 26 مترًا إلى تلك المكتبة الأثيريّة المليئة بالضوء. تتوجه المصاعد أعلى من ذلك باتجاه مختبر الأفكار، حيث لا يتوقف عصف الأفكار الابتكاريّة، وأبعد من ذلك لتصل إلى برج المعرفة، الذي يستضيف دروسًا متقدمة، وورش عمل تعليميّة مدى الحياة، تحفز المهارات والمشاركة الإبداعية.

 

 

 

 

"الأمر الرائع في هذا المشروع أن أرامكو حافظت على أملها طوال الوقت" هذا ما أخبر به المهندس المعماريّ الكبير في سنوهيتا تاي يونغيون مجلة وولبيبر (Wallpaper*).

خلال النهار، دائمًا ما أجد البلازا هادئة - طوابير منتظمة من طلاب المدارس مع مدرسيهم، وزوار يتجولون في المعرض – لكن في أواخر ما بعد الظهيرة، يصبح الجو أكثر حيويّة بعد انتهاء يوم العمل، ويبدأ طلاب الجامعات بالمزاح والتدافع نحو المكتبة. في المساء، تصبح البلازا أشبه بمركز تسوّق لكن دون محلات تجاريّة، آباء يدفعون عربات أطفالهم، ومجموعات من الأصدقاء يتجولون معًا، وتجمعات جمهور المسرح والسينما.

هنالك صدق في المواد المرئيّة. حيث تكسر خطوط الرؤية عبر البلازا بأعمدة هيكليّة، يرتفع كل منها من قاعدة مثلثيّة إلى قمة مربّعة بنحت دائريّ للخرسانة الظاهرة معماريًّا.

هذا ما تمّت محاكاته في بنية جدار البلازا، والذي استعملت فيه تقنية قديمة معروفة باسم التربة المدكوكة (rammed earth،) حيث يتم ضغط التربة المبللة والممزوجة مع الحصى أو الطين، لتشكيل أحجار بناء. وهي موجودة في جميع أنحاء العالم، ومن ضمنها أبنية الطوب، ما قبل الحداثة في السعوديّة، والتي اكتسبت شهرة حديثة بسبب استدامتها وسلامتها البيئيّة. ولكن حاليًّا دائمًا ما يتم تثبيتها بالإسمنت، الأمر الذي يقلل من استدامتها المشهود بها. أمّا إثراء فقد أعاد إحياء وصفة التربة المدكوكة الأصلية – واستعرضها.

"هنالك شخص واحد فقط في العالم، قد آمن من أعماقه أن (الإسمنت) لم يكن ضروريًّا" يقول بلال ناصر، رئيس التصميم والهندسة في إثراء. هذا الشخص هو المعماريّ النمساويّ مارتين روش. سافر فريق من إثراء ومن ضمنهم ناصر لرؤية منزل روش في جبال الألب، والذي بناه من التربة المدكوكة التقليديّة ودون إسمنت – ثم جلبوا روش إلى الظهران للمساعدة في تدريب المقاول السعوديّ فهد محمد الصويغ على التقنية الجديدة/القديمة.

يقول ناصر"أردنا أن نعيد تقديم "التربة المدكوكة" للناس الذين يألفونها في المنطقة، لكن باستعمال هذه الطريقة الجديدة"

ساعدت الجدران الداكنة ذات الملمس الخشن الناتجة عن ذلك، على ترسيخ هذا المبنى الدوليّ والأكثر حداثة ضمن سياقه المحليّ. حيث تعطي  توجيهًا بصريًّا ملموسًا نحو التصميم التقليديّ، في الوقت الذي تعمل فيه من الناحية العمليّة على تخفيف الحرارة القادمة من الخارج، والتحكم بالرطوبة، وتقليل استهلاك الطاقة اللازمة للتكييف، وتحسّن الأداء الصوتيّ – كل هذا تمّ بأبسط المواد المحليّة.

"الهندسة المعماريّة شكليّة من جهة، وفكريّة من جهة أخرى، و ذات سياق. لقد حاولنا خلق أشكال وهيئات يمكن تحويلها إلى محادثة في المجتمع العربيّ" – بلال ناصر.

في بدايات 2010م، بعد انتهاء تصميم المبنى، عادت الراشد من أوسلو. بدأ البناء في أغسطس تحت إشراف المدير التنفيذيّ حينها (ووزير الطاقة والصناعة والثروات المعدنيّة) المهندس خالد الفالح، وهو من الداعمين القدامى للمشروع، والذي عمل مع جمعة لسنوات. تابع الفالح وبمساعدة الخيال دفع المشروع للأمام، حتى حينما اندلعت الخلافات الداخليّة حول حلول تصميميّة سهلة ومألوفة أكثر - كجدران من الخرسانة والرخام عوضاً عن التربة المدكوكة - وهي شهادة بحق إصرار الخيال والراشد أنه قد انتصر الابتكار في معظم الحالات.

تنوع اللمسات الأخيرة كان مبهرًا.

الشرفات المتموّجة للمكتبة، بالإضافة لأشكال رفوفها ومقاعدها وأسطحها السلسة، كلها مغطاة بلون أبيض لامع (كوريان) وهو مركب أكريليك أملس، يشتهر باستخدامه على أسطح المطابخ الراقية.

تظهر جدران و سقف المكتبة كسوة تشبه جلد السمك اللامع، من خلال الأطباق الخماسية المتداخلة، والمصنوعة من الفولاذ المجلفن: بجانب تأثيرها البصريّ، فإنّها أيضًا تعمق صدى الصوت، وتسمح للأسطح الداخليّة بتعقب المنحنى الحجميّ الحرّ.

شكلت مادة البناء الأساسيّة، الخرسانة، الجدران المنحدرة، والأعمدة الملفوفة والدعامات الفنيّة. اعترف المعهد الأمريكيّ للخرسانة أن الطريقة التي استعملت بها الخرسانة في بناء المشروع كانت مبتكرة وفنيّة.

تمت تغطية  القاعة الكبرى من الداخل -بارتفاع 14 مترًا ومساحة 1,500 متر مربع - بصفائح متقوّسة من النحاس المثقّب والمضاء من الخلف، ليخلق تأثيرًا إيجابيًّا يشبه تأثير القبة السماويّة.

تمتلك المساحات الاستعراضيّة - بما فيها السينما والمسرح - جدرانًا من ألياف صوتيّة ممدودة ومثبتة فوق ألواح عازلة للصوت.

يحمي بئر الضوء المحيط بدرج المتحف اللولبيّ، 42 لوحًا خشبيًّا ضخمًا، كل واحد منها بارتفاع 25 مترًا، مكوّنة من مزيج من الأرز والبلوط. تنحني الأخشاب بزاوية 90 درجة من القاعدة وحتى القمة، في تقليد لنوافذ المشربيّات الخشبيّة التقليديّة، التي تعرض مناظر مغايرة لـ"المصدر" ومنحوتة بينوني، بينما تنزل على الدرج اللولبي.

 

"صنع مبنى  إثراء ليشبه سفينة فضائية" يقول الذرمان.

كما توسع الابتكار نحو الخارج. تشكل Xeriscaping – وهي تقنية لتشكيل المناظر الطبيعيّة، دون ريّ في الأماكن القاحلة – الأسطح الصحراوية التي تغطي البناء الجوفيّ لإثراء، حيث تنمو النباتات المحليّة في بيئة جافة، بجانب النباتات المجلوبة من أستراليا وأريزونا، لتظهر التنوع الطبيعيّ.

لكن الجانب المذهل والأصيل لتصميم المبنى هو كسوته الخارجيّة. كانت فكرة سنوهيتا الأولى هي أسطح معكوسة لكل الصخور، لكن تحديات مُناخ الظهران، والحاجة لبنية مستدامة، وأداء بيئيّ، سريعًا ما أظهرت أن اللمسات النهائيّة كلوحات الصلب أو الزجاج غير عمليّة. أنتجت أشهر الفحص والتصميم خلال 2008م و2009م تحت توجيهات شركة الهندسة البريطانيّة بيروهابولد حلًّا فريدًا -وصعبًا للغاية-. بعد استعراض نموذجي في سالزبورغ في النمسا، قام فريق إدارة مشاريع أرامكو - بدعم من الخيال - بتجريب ضربة حظ.

إثراء مغلف بأنابيب فولاذية – 93,403  أنبوباً بطول أكثر من 360 كيلومتراً إذا ما تم مدها واحدًا بعد الآخر. قطر كل أنبوب 76.1 ملم، وهو مصنوع من فولاذ رقيق جدًّا بسماكة 2 ملم. هذه الأنابيب موضوعة ببعد 10 ملم تمامًا عن بعضها بعضًا، ومرتبطة بدبابيس من التيتانيوم، لتقف واضحة عن الألواح أسفلها، التي تشكل كسوة المبنى والمقاومة للعوامل الجويّة. كل أنبوب مطويّ في بعدين أو ثلاثة أبعاد، ليتناسب مع الانحناء المثبّت فيه، ومشفّر بحيث يتناسب فقط مع مكانه المحدد دون أيّ مكان آخر.

المقاومة ضد التآكل - الذي ينتج عن الرمل والرياح - كان اعتبارًا أساسيًّا. شرح ناصر أن الأنابيب مصنوعة من دوبلكس 2205، واحد من أقسى أنواع الفولاذ غير القابل للصدأ.

يضيف: "لم تكن هنالك أي مادة معياريّة يمكنها أن تتخذ شكل انحناء طبيعيّ، حيث سمحت لنا الأنابيب بالمحافظة على المنحنيات كما كان مطلوبًا".

كانت التحديات الهندسية في تصميم الأنابيب، ومن ثم طي كل واحد منها بدقة، تحديات مخيفة. لم تجرَّبْ مسبقًا واجهةٌ بهذا الشكل، لذلك بنت شركة المقاولة الألمانية (Seele GmbH) آلة ذاتيّة التعلم وصممت برنامجًا مخصصًا لهذه المهمة. كان أمام كل أنبوب محاولة طي ولفّ واحدة -إعادة الطيّ كانت مستحيلة- كما كان على  البرنامج أن يأخذ بعين الاعتبار عامل ارتداد الفولاذ، عن طريق طيه أكثر من المطلوب بشكل جزئيّ. وكذلك كان يجب للأنابيب التي ستمتد عبر نوافذ المبنى أن تكون بسماكة 12 ملم تمامًا لتشكل بنية "اللوفر" مما يسمح للضوء بالدخول، بينما يُبقي الشمس المباشرة على الخليج، ويفتتح رؤية للخارج.

وقد مدح المعماريّ المحافظ أورويل بريزومان الطموح التقنيّ لهذا المشروع، من خلال كتابته في The Architectural Review إن إثراء"يحرف الضوء أكثر مما يعززه". بعد مغرب كل مساء، يتدفق ضوء أكثر من 150 من الأضواء الكاشفة الموجودة على مستوى الأرض، لتغطي هذه البنية الخارجيّة للمبنى بطبقات مبرمجة عبر الحاسوب من الصور والأشكال والألوان.

وقد علق البعض على ما يرونه رمزيّة واضحة في أن يكون مبنى شركة نفط مكسوًّا بأميال من الأنابيب، ولكن بنظرة أقرب يبدو التأثير -على نحو معاكس ربما- أقل صناعيًّا منه طبيعيًّا. ذكرتني كسوة إثراء ببصمة الإصبع، أو بحلقات النمو المعقدة التي تميز قشور الرخويات.

يستمر التأثير البصري للأنابيب ذات الزوايا حرفياً من الخارج نحو الداخل. أثناء تنقلك في البلازا، تلاحظ امتداد نسيج الأنابيب، ليحيط بكل حصاة عملاقة لكل مبنى على حدة، من الأعلى وحتى المستوى الأرضي في الأسفل. في القاعة الكبرى، قمت بتمرير مفصلي على قسم من الأنابيب لأسمع الرنين المعدنيّ السلس، ثم مررت أطراف أصابعي على الحائط الخشن المنقط بالحصى المصنوع من التربة المدكوكة الموجود بجانبه تمامًا.

تقول الراشد "يعكس التناغم القائم بين البناء باستعمال تقنية قديمة (التربة المدكوكة) والنظام الذي لم يتم عمله قبل ذلك مطلقًا (الأنابيب الفولاذيّة) كيف أنه يمكن للماضي والحاضر أن يعملا معًا. إنّها رسالة لمهندسينا ومعمارينا الشباب".

ويوضح ثورسون الفكرة ذاتها. "عندما تجتمع طرق البناء التاريخيّة مع الطرق المعاصرة، يمكنك أن تقرأ مرحلة زمنيّة حتى لو لم تكن واعيًا لذلك تمامًا. فقط عندما تبدأ تأخذ وقتك بالتفكير بعدها، حينها ترى أنك اكتشفت شيئًا جديدًا".

تحافظ الأنابيب على اللمعان المقترح بفكرة سنوهيتا الأصليّة، بينما يبقى المبنى باردًا. لقد قاموا بعكس الحرارة بعيدًا، وغطوا كل سطح خارجيّ. لقد استعانوا في التصميم البيئيّ والطاقة، بما يعرف بـLEED – وهو نظام تقييم عالميّ، تمّ تطويره من قبل المنظمة الأمريكيّة غير الربحيّة U.S Green Building Council – والتي منحت إثراء التمثال الذهبيّ، ثاني أعلى درجة.

 

"لا يجب أن يكون إثراء بناءً أيقونيًّا فقط، بل يجب أن يكون برنامجًا ثقافيًّا عظيمًا. لا ينبغي أن يقدّم ما هو مقبول فقط، بل أن يرتفع بالذوق والتفكير إلى أعلى الدرجات " – فؤاد الذرمان.

وحتى بعد أن تم تشكيل هذه الحلول التصميمية الابتكاريّة، عبّر الذرمان عن اقتناع أرامكو بأنّ الفنّ المعماريّ لوحده لا يستطيع حمل رسالة إثراء في تغيير المجتمع.

في 2008م، بدأ الذرمان دراسة السوق في 10 مدن على امتداد السعوديّة، مركزًا على توقعات العامة عن مركز ثقافيّ مثاليّ.

يقول الذرمان "النتيجة الأساسيّة كانت أن الناس يرغبون في تجارب ثقافيّة حيّة وديناميكيّة، لا معارض ذات لوحات معلقة على الحائط".

لم يؤدِ هذا فقط إلى وضع المسرح والسينما على أعلى لائحة الأولويات لإثراء، بل أسس لتوجه برامج التوعية، والتي شارك فيها أكثر من مليوني شخص، على مدى السنوات الخمس التي سبقت افتتاح المبنى في الظهران.

على امتداد 2013م و2014م، جال إثراء كل  مناطق السعودية ببرامج تجريبيّة واسعة النطاق،  تضمنت عناصرَ من المركز الثقافيّ المكتمل – مسرحًا، وسينما، ومتحفًا فنيًّا ومنطقة للأطفال- لاختبار تجاوب العامّة. زار أكثر من نصف مليون شخص كلَّ واحد من المواقع التجريبيّةالأربعة. كما دعمت السعوديّة حوالي 100 مدرس ليتلقوا تدريبًا في الولايات المتحدة. دوليًّا، وصلت المعارض المنظمة من طرف إثراء للفنّ السعوديّ المعاصر، والعروض المباشرة، وعروض أعمال صناع الأفلام السعوديّين، إلى نصف مليون شخص آخر في 40 ولاية أمريكية بين عامي 2015م-2016م.

وتستمر برامج التوعيّة اليوم. فقد عزّزت مسابقة "أقرأ iRead" وهي مسابقة إثراء للقراءة، النقاشَ الوطني حول مراجعات الكتب التي يقدمها الطلاب منذ 2013م.

جائزة إثراء للفنون، والتي تم إطلاقها في 2017م، مفتوحة أمام الفنانين السعوديّين والمقيمين في السعوديّة، وتعرض عمل الفائز في فعالية دبي آرت. قالت عنها دانية الصالح، التي فازت بالجائزة في 2019، إنها "نقطة تحول" في حياتها المهنيّة.

 

"التعريف ببرامج إثراء التوعوية كان حتى وقت قريب جداً أقوى علامة تجارية للمركز بحد ذاته" يقول عبد الله الراشد مدير برامج إثراء. "لقد كنا نرى ذلك سلاحًا ذا حدين. فنحن ننقل ثقافتنا للخارج، ونرغب بنقل ثقافة العالم إلى هنا".

وأحد أهم الموجّهات لذلك هو مسرح إثراء ذو الـ 900 مقعد، أول مكان ضخم في السعوديّة لتقديم برامج أدائيّة فنيّة على مدار العام.

"جزء من عملنا هو أن نجعل الناس يعرفون (ما هو المسرح)" يقول المدير الفنيّ إيلي كرم، مشددًا أن البلاد لا تمتلك تراثًا مسرحيًّا سابقًا لتبني عليه. ويصف العروض المتنوّعة في الموسم الحالي، من زيارة الأوركسترات الأوروبيّة، إلى الدراما الهنديّة، وفرق التسليّة الأمريكيّة. التخطيط يجري على قدم وساق لإطلاق برنامج مسرح وطنيّ للطلاب.

وبالقرب منه، في السينما ذات 300 مقعد، يقول ماجد سمّان، مدير الفنون الأدائيّة، إن إثراء يدعم صناع الأفلام السعوديّين لينتقلوا من تصوير الهواة إلى الإنتاج الاحترافيّ، من خلال منصة على الإنترنت غالبًا. عُرض فيلم جود، الذي أنتجه إثراء بالتعاون مع فريق سعوديّ-بريطانيّ مشترك، لأول مرة في سبتمبر 2018م. وهنالك تسعة أفلام أخرى في طريقها إلى الإنتاج هذا العام. يقيم إثراء ورشًا تدريبيّة  شهريّة لدعم الخبرات السعوديّة في مجال صناعة الأفلام، من التصوير السينمائيّ والمونتاج  والصوت والإضاءة والإنتاج... كما يستضيف عروضًا لأفلام محليّة ودوليّة.

 

      بناء المهارات، وتمكين الإبداع، ثم إظهار النتائج، يقودُ إلى ما قد يكون أكثر برنامج طموح لإثراء، وهو مختبر الأفكار؛ تشغل هذه المساحة ذات الطوابق الثلاثة مبنى الحجر الأساسيّ، أصغر حصاة من الحصوات الخمس، والمثبت على الأرض بين أشقائه الأكبر. تتحدث فاطمة الراشد ببلاغة عن معاناتها لملء هذا المكان غير الاعتياديّ، والذي كان قد صمم في البداية ليكون متحف الطفل.

"ينقل إثراء روح الابتكار. أردنا بناءً يمكنك عندما تراه أن تقول "لم أرَ من قبل شيئًا كهذا، وغالبًا لن أرى شيئًا مثله. لنتستمتع بالتصميم المعماريّ الرائع فحسب، بل ستستمتع بصحبة الأشخاص الرائعين". – فؤاد الذرمان.

 

"إنّه مهم للفلسفة المعماريّة، منطقة محصورة بين الحصى -صغيرة لكن قويّة، لأنها تدعم وجود المباني الأخرى. هكذا يبدو مختبر الأفكار معلقًا نافذة تطلّ على المصدر في الأسفل، كفراغ محايد  يربط كل شيء حوله".

بدأت تدرك أنه يجب قلب فكرة الاستهلاك الثقافيّ رأسًا على عقب.

"كل برامج إثراء تشحنك وتدفعك للصعود، لكن لم يكن هنالك منفذ للأعلى. أنت تتعرض للكثير من الأشياء التي تلهمك، لكن ماذا بعد؟ كيف نخلق مكانًا حيث يمكنك القول "لدي فكرة، ماذا يمكنني أن أفعل حيالها؟"

اليوم، يحتوى مختبر الأفكار على ثلاث مناطق. الأولى هي حجرة التفكير، وهي منطقة عمل متواضعة تحت السقف المقبّب لحجر الأساس. تحته، حجرة العمل، وهي غرفة التصميم والنماذج، والتي تتضمن طابعة ثلاثيّة الأبعاد، و"مكتبة مواد" مميزة – تحتوي على رفوف قابلة للبحث، تعرض نماذج متنوعة من الأقمشة والمواد البلاستيكيّة، وبضع مئات من المنتجات الطبيعيّة والصناعيّة الأخرى، لتكون مصدر إلهام لصاحبِ فكرة مبتكرة. والأخيرة هي حجرة العرض، مسرح مصغر، ومنطقة للعروض التقديميّة والنقاشات.

ترى الراشد مختبر الأفكار على أنه أكبر من مجرد مساحة فيزيائيّة. "إنه كالعقل. هذا المكان الذي تبدأ فيه الأشياء فكرة صغيرة ثم تنتشر وترى النور".

كما يوضح المدير الإبداعيّ روبرت فريث أن مختبر الأفكار مدعوم أيضًا بشبكة من العلاقات التعاونيّة التي تبني شراكات مع المراكز والمؤسسات السعوديّة والعالميّة.

يقول فريث "قبل افتتاح المبنى، كنّا نعمل كوحدة الإبداع والابتكار. بما في ذلك  العمل مع جامعات محليّة، لنجلب أفرادًا من المجتمع كي يشاركوا في صناعة الأفكار والنماذج. نحن على وشك نقل الناس للمحطة المقبلة – وضع الأفكار على ورق، صنع نموذج عنها، أو اختبارها، أو نقلها، ليتمّ احتضانها كفكرة مشروع عمل".

يقول الذرمان عن نشأة إثراء "ما حدث يمكن وصفه  بالمعجزة، لأن مشروعًا كهذا يمضي عكس الرؤية التقليديّة لأرامكو. لكن إذا فكرت أن رأس مالك هو الناس، فأنت بحاجة لرعاية رأس المال هذا. زوار إثراء هم موظفون مستقبليون في أرامكو. نأمل أن يكون أحد خريجي متحف الطفل هو المدير التنفيذيّ لأرامكو بعد 50 سنة".

ويضيف: "قدّمت لنا بعض المراكز الثقافيّة حول العالم، تلك التي تحاكي إثراء في المنهجيّة متعددة المجالات، والفنّ المعماريّ الابتكاريّ والطموح إلى التغيير، بعضَ الأمثلة والأفكار والدروس". وذكر منها مركز بومبيدو في باريس، مكتبة الإسكندرية في مصر، ومركز غيتي في كاليفورنيا. لكن، وربما لدرجة أكثر من أي من هذه المراكز، أصبح إثراء محاولة لإظهار طريقة تقدميّة جديدة للمجتمع كله – شامل، فضولي ومتجاوب.  أسعار تذاكر إثراء منخفضة بما فيه الكفاية، لتجعله مكانًا مناسبًا للجميع  بدون استثناء، حيث يصل سعر التذكرة إلى أقل من 10 دولارات أمريكيّة في بعض الحالات، وأصبح معرض أرامكو القديم الآن معرض الطاقة، متحفًا علميًّا مكتملًا، يعرض تجارب حيّة وتكنولوجيا تفاعلية مجانًا .

 

في أول 11 شهرًا من افتتاحه، جذب إثراء حوالي 700,000 زائر.

التركيز بشكل استثنائي على المدى الطويل هو جهد يهدف لخلق مشاركة كافية في الفنون والإبداع، كما يقول عبد الله الراشد "إحداثُ تغيير سلوكي". يجسد إثراء عقليّة تطمح لإعادة تشكيل فكرة المساحات العامة في المملكة.

 

تقول فاطمة الراشد "جاءت فكرة إثراء من الناس الذين ترعرعوا في المنطقة، والذين مروا بظروف وفرص متماثلة في هذه الشركة، فعندما التقينا ووضعنا أفكارنا معًا، كنّا كأنّنا قد توصلنا لاتفاق فوريّ"

هنالك رؤية أبعد، فمن المحتمل أن تنمو المساحات الواسعة المحيطة بإثراء لتصبح منطقة من المراكز ذات التوجّه الثقافي. محليًّا ثم وطنيًّا ثم عالميًّا. التغيير الاجتماعي الشامل هو الهدف الأسمى.

يقول الرئيس والمدير التنفيذيّ لأرامكو أمين ناصر، والذي اكتمل بناء  إثراء أثناء مأموريّته: "لقد أصبح إثراء واحدًا من أهم الطرق التي تمكن أرامكو من تقديم شيء للشعب السعوديّ الذي استثمر فيها، إنه يمثل التزامنا بمسؤوليتنا المجتمعيّة من خلال تنمية الطاقة البشريّة ".

بالنسبة لعبد الله جمعة، يتعلق الأمر بديمومة  الشركة. ويؤكد "أردنا تحويل أرامكو إلى مواطن عالميّ ذي مسؤوليّة".

"الطريقة الوحيدة التي تمكننا من تحقيق ذلك هي  العمل مع الناس الذين يفهمون الآخر. أردنا إثراء منزلًا، ليس للسعوديّة فحسب، بل منزلًا يسع العالم أجمع".

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode