قبل عشرين عامًا، وعلى مسرح المفتاحة في مدينة أبها، سقطت "قيثارة الشرق"، وتوقف اهتزاز أوتارها داخل الجسم والمقبض، توقفت النوتات عن الشدو، وتوقفت الأصابع عن مداعبة الآلة؛ سقطت القيثارة، وبدل أن ينفكّ عقد أوتارها المنتظم المتوازي، وتركن للصمت المهيب، لا تزال حتى الآن تمتعنا. على خشبة مسرح تضج بالألحان والآلات الموسيقيّة وفناني الأركسترا ولفيف من المعجبين والعشاق والإعلاميّين، ودع طلال مداح الحياة، وهو يمارس شغفه في إمتاع الناس.

 

طفل يتيم انتقل من مكة - حيث ولد ذات يوم من صائفة 1940 تحديدًا في يوم 5 أغسطس - إلى الطائف، حيث ينتظره المجد في كامل أبهته واستعداده. الطائف التي كانت قبل الإسلام ولّادة للمبدعين، وخبيرة في تقديم أصحاب المواهب المؤمنين بها إلى عالم الشهرة من خلال سوق عكاظ، لم تخلف وعدها ولم تتخل عن هوايتها القديمة، فقد استقبلت الطفل الموهوب بالأحضان والقبل، وفرشت له الطريق، وقالت له: اعبرْ إلى القمة، ولكن برويّة وتؤدة وتمهل.

طلال الجابري، تحول بالصدفة أو لظروف الواقع إلى طلال مدّاح، إذ عاش طلال طفولته في كنف زوج خالته علي مداح، ولكي يتمكن من دخول المدرسة بسلاسة خلع عليه اسمه، الاسم الذي حمله حتى يوم الناس هذا؛ عاش كأيّ طفل، لم يكن هناك شيء مختلف في طلال الطفل، سوى ذلك الصوت الذي لا يختلف اثنان على جاذبيّته وسحره، مما أهله ليكون مقرئ المدرسة حينما كانوا يحتاجون من يتلو آيات من الذكر الحكيم مهما كانت المناسبة، وليكون كذلك صوت المدرسة الصادح في الحفلات المدرسيّة والأيام التربويّة والأناشيد والمحفوظات.

 

تعلم الغناء مع صديق الطفولة محمد رجب، وبرع في العزف وهو يداعب بمفرده عود صديق الدراسة الابتدائيّة عبدالرحمن خوندنه، وسريعًا أصبح بارعًا في العزف والغناء معًا، ففي ليالي الصيف، حيث تغدو الطائف ملاذًا من الحر ومقصدًا للزوار، بدأ نجمه يسطع رويدًا رويدًا.

ومع تعاقب فصول السنة في الطائف، وسطوع نجم الفنان الصاعد قيض الله له فرصة على شكل رجل: عباس غزاوي مدير إذاعة جدة، أعجب بذلك  الصوت الطفوليّ الجميل، وقرر أن يمنحه  استوديوهات الإذاعة وأمواجها وآذانَ المستمعين وشيئًا من الشهرة.

وفي تلك الفرصة الممنوحة قدم طلال مداح جواز سفره أغنية "وردك يا زارع الورد" التي ألهبت الجماهير وجعلت منه مطربًا حقيقيًّا. ومن تلك الأغنية وتلك الإذاعة وتلك الفرصة ولد النجم: الموسيقار، والملحن، والمطرب، الذي أسر العالم لاحقًا.

 

 ثم كان الانتقال إلى جدة، حيث الحياة أكثر صخبًا من الطائف، والواقع الثقافيّ والفنيّ والأدبيّ أكثر رحابة، كانت جدة آنئذ عاصمة ثقافيّة وفنيّة للسعوديّة لذلك كان قرار طلال مداح بالانتقال إليها ـ ليتيح لطموحه فضاء أوسع للانطلاق ـ قرارًا استراتيجيًّا موفقًا.

 

لم تكن جدة مثل الطائف، فلئن كانت الطائف مدينة صغيرة  ومصيفًا لا يتطلب الظهور والتميز الفنيّ فيها إلا صوتًا جميلًا وشيئًا من الحظ، فإن إثبات الوجود في جدة كان يحتاج طاقة أكبر، وموهبة أكبر، وجهدًا أعظم، وقد استطاع طلال بطريقة غنائه الحجازيّة المميزة، وانفتاحه على الموسيقى الشرقيّة عمومًا، وقدرته الطربيّة على العزف والتأليف الموسيقي إضافة إلى الغناء، استطاع بذلك الكوكتيل المميز أن يقول بأعلى صوته: "أنا هنا"؛ فكان له ما أراد، استطاع أن يكون بيته في جدة محجًّا للشعراء والملحنين والمطربين، ومشكاة تضيء جدة والسعوديّة بل العالم كله بالفن والجمال.

منذ البداية بدا أن طلال مداح يهيئ نفسه ليكون صوت العشاق والمحبين والمشتاقين  وذوي المشاعر الجياشة والعواطف الصقيلة، أسارى الشجن والحنين والعشق الزلال؛ وبدا جليًّا أن أغانيه بمثابة مانيفستو علنيّ للجمال وللحب،  فيما يمثل بعضها منشورات سريّة يتعاطاها العشاق وجرحى العشق ومعطوبو حروب الحب وكلمى المواجهات العاطفية لتكون بلسمًا ودواء شافيًا.

كانت أغنياته تعبيرًا قويًّا عن كل الأحاسيس الطافحة والعواطف الجميلة، مفعمة بالرومانسيّة والمشاعر الصادقة الصدوقة.

 

سرعان ما حلق الصوت الشَّجِنُ خارج حدود المملكة، فمن يملك صوتًا مثل صوته لن يخضع لقوانين الجغرافيا، ولن يعترف بالحدود بين الدول، انتقل صوت طلال مداح متسربًا بين ذبذبات الأثير من القاهرة وبيروت والرباط وبغداد وباريس؛ ثم تنقل الجسد فيزيائيًّا بعد ذلك ليمتع عشاقه مباشرة في كل أصقاع العالم، ليكون أول فنان يحمل الأغنية السعوديّة خارج الحدود الخليجيّة؛ وفضلًا عن ذلك كان الفنان، الملحن، الممثل، المنتج، راعيًا للفن وملهمًا لجيل من الفنانين الذين أخذوا عنه وتعلموا منه،  وتخرجوا في مدرسته الفنيّة وما زالوا يحتفظون له بالعهد، ويدينون له بآيات الامتنان والعرفان.

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode