محمد سعيد فارسي

مهندس معماري برتبة فنان

 

   الذي يعرف مدينة جدة، سواء كان من سكانها الماكثين، أم من عشاقها العابرين، أم زوارها الذين تأخذهم إليها ظروف العمل والمرور والسياحة والاستكشاف والاستجمام، سيلاحظ ـ لا شك ـ حضورًا قويًّا للمنحوتات، والمجسمات، والنصب التذكاريّة، والقطع الفنيّة المتناثرة في شوارع المدينة، إلى حد أنّها عرفت بمدينة الفنّ والجمال. وراء هذه العلاقة الأثيرة بين عروس البحر الأحمر والنحت يقف عقل مهندس معماريّ، وذائقة فنان، وفكر رجل دولة من طراز رفيع، الثلاثة يتجسدون في رجل واحد... عن المهندس المعماريّ  محمد سعيد فارسي نتحدث.

     ولد محمد فارسي في مدينة مكّة المكرّمة سنة 1936م، وتشكلت طفولته داخل الأحياء المكيّة على الفروسيّة، وعشق الرياضيات، والرسم؛ بدأ دراسته مبكرًا في مدرسة الرحمانيّة الابتدائيّة، ولاحقًا تنقل في جمهوريّة مصر العربيّة، سائرًا خلف رغبته في إكمال الدراسة التي أرادها أن تلبي له الشغفين: شغف الرياضيات وشغف الرسم، فاختار دراسة الهندسة المعماريّة في جامعة  الإسكندريّة العريقة، ومنها حصل سنة 1963على شهادة البكالوريوس في الهندسة العامة، ثم واصل فيها دراسته العليا حتى تحصل منها سنة 1982 على شهادة الماجستير في العمارة والتخطيط بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف الأولى، قبل أن ينال شهادة دكتوراه دولة بعد ذلك بخمس سنوات من ذات الجامعة، بعد أن أصبح موظفًا حكوميًّا، أمينًا لمدينة جدة، ومباشرًا عمليّة بنائها على المعايير الحديثة.

    فارسي هو عراب التخطيط العمرانيّ لمدينة جدة الحديثة، وهو الأب المؤسس لشوارعها وساحاتها العموميّة، وهو الذي أبدع كورنيشها الساحر، الذي طالما كان ملهمًا للشعراء والفنانين والمبدعين، وفضاء ممتعًا لسكان المدينة وزوارها على حد سواء، وواحدًا من معالم المدينة البارزة ومتنفسها الجميل على شاطئ البحر الأحمر.

    حين امتلك فارسي القرار بوصفه أمينًا للمدينة، فكّر في تحويلها إلى وجهة للفنّ، وملاذًا للفنانين وخصوصًا النحاتين منهم، وأخذ على عاتقه مهمة تحويل شوارعها إلى متاحف للفنّ، لكي يمتع عين الرائي أنّى ارتد بصره، وليسِم المدينة بميسم الفنّ ميزةً وقيمة مضافة وصفة خالدة، حتى بعد رحيله عن عالمنا.

   الفكرة الثوريّة  التي واتت محمد سعيد فارسي وهو يخطط للتحول العمرانيّ للمدينة كانت ذات أبعاد جماليّة بالدرجة الأولى، ولم يكن في ذهن المهندس الشاب حاملًا للجمال أفضل من الفنّ،  لذلك استعان بأكبر النحاتين حول العالم، مثل الفنان السوري ربيع الأخرس، الذي نحت ما يزيد على ثلاثين منحوتة في شوارع وميادين المدينة، والمصريّ مصطفى سنبل، وفنان بريطانيا التجريديّ العظيم  هنري مور، والنحات الفرنسي الذي أبدع درع جوائز سيزار السينمائيّة الفرنسيّة المشهورة سيزار بلديسيني، ومواطنه فيكتور فازاريلي، والرسام والفنان والشاعر الألماني المرموق جان آرب (هانز آرب) ، والرسام الكاتالوني خوان ميرو، ومواطنه خوليو فونتى  والأميركي ألكسندر كالدر المعروف بمنحوتاته المتحركة، وغيرهم من الفنانين والأسماء الكبيرة عالميًّا وعربيًّا في عالم النحت والتصاميم الفنيّة.

    استطاع فارسي أن يحول عروس البحر الأحمر إلى معرض عالميّ، زاخر بالفن المنغرس على الشوارع الكبيرة، وملتقيات الطرق، والأماكن العامة، وقد تجاوزت المنحوتات التي شيدت على أرض المدينة في عهده أربعمائة عمل فنيّ إبداعيّ نحتيّ. تلك المنحوتات التي انتقل بعضها في الوقت الراهن من شوارع المدينة ـ وطنها الأصلي ـ للإقامة في متحف جدة الفنيّ المفتوح الذي يقع على كورنيش المدينة الساحر.

    لم يكتف الراحل المغفور له بجعل جدة مدينة ماتعة وممتعة ومثالًا للحداثة والعصرنة فقط، بل حمل معه تلك الرؤية والرغبة في التطوير إلى مكة، مسقط رأسه ومتحف ذكريات طفولته، حين عُيّن مسؤولًا عن مشروع تطويرها، وأيضًا حمل الرؤية ذاتها إلى العاصمة حين  شغل منصب مدير مكتب تخطيط المدن في الرياض،  وفي كل تلك المهام ظلّ المهندس الذي في داخله ينصت للفنان ويتعاطى معه ويفسح له مجالًا للتدخل في كلّ الحيثيات العمرانيّة وفي كلّ تفاصيل البناء والتشييد والعمران.

   إنه الرجل السعوديّ الذي حمل الهندسة المعماريّة من مجرد علم للتخطيط  والبناء والتشييد إلى عالم مفتوح على كلّ الأفكار الإبداعيّة، وجعل من أفكاره في التخطيط و التعمير قالبًا مُشرَعًا أمام الفنّ الصقيل؛ الرجل الذي ظلّ يخدم المملكة العربيّة السعوديّة ومشاريع بنائها المختلفة، منذ شبابه إلى أن وافاه الأجل المحتوم في شهر مارس 2019 عن عمر يناهز 83 سنة.

 

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode