الطبل أو التام تام في إفريقيا، ليس مجرد آلة موسيقية إيقاعية، إنه ظلهم على الأرض، فعلى دقاته يحيون أفراحهم، ويخلدون أحزانهم؛ يُقرعُ عندما تقوم الحرب، وحين تعقد الهدنة والصلح، يُدقُّ لتشييع الجنائز، واستقبال الضيوف، وإقامة الحدود، و اجتماع أهل الحل والعقد تحت شجرة الباوباب العظيمة. فالطبل هو مركز حياة القبائل الإفريقية القديمة، ومحمل ثقافاتهم وأديانهم و مشاعرهم وأحاسيسهم ورؤاهم وأفكارهم؛ ويومَ سيقوا من كل إفريقيا إلى العالم الجديد، المكتشف حديثاً، حيث أمريكا حملوا معهم إيقاع الطبل وتوارثوه جيلاً بعد جيل، وهم يرزحون تحت نيران العنصرية، ويمارسون العمل المضني في حقول القطن؛ وحين ألغيَ الرق في أميركا سنة 1863م، وانتهت الحرب الأهلية الأمريكية بعد ذلك بعامين، وجد هؤلاء الأحرارُ الجدد أنفسهم وهم يستحضرون إيقاع الطبول، مازجين إياها بالموسيقى الأوروبية، مبدعين نسقاً موسيقياً جديداً؛ سيعرف لاحقاً بموسيقى الجاز.

 

كانت البداية في مدينة نيو أورلينز، التابعة لولاية لويزيانا، النائمة على ضفاف نهر المسيسيبي، حيث تقاسم النفوذ  كل من إسبانيا وفرنسا، قبل أن تؤول ملكيتها المطلقة إلى فرنسا، ويبيعها نابليون بونبارت للحكومة الأمريكية سنة 1803م، في هذا المكان المتنوع عرقياً، حيث ذوي الأصول الفرنسية والإسبانية والمجتمع الإنجليزي يعيشون برجوازية وإقطاعية، في مواجهة أغلبية من الإفريقيين، الذين يعيشون على الهامش، فأطلق هؤلاء الإفريقيين زفراتهم وسخطهم من خلال ابتداع فنٍ موسيقي جديد، أخذوا فيه من الموسيقى الكلاسيكية جانباً، وطعموها بإيقاع الطبول الإفريقية، وألفوا أغاني مرتجلة تندد بالظلم والقهر، وتنادي بالمساواة بين البشر، وتبشِّر بغد أكثر إشراقاً.

 جاء الجاز كردة فعل صارخة ضد اضطهاد الإقطاعيين، ومتنفساً فنياً لمن عانوا من كل ويلات العنصرية والتسخير والتهميش، جاء على هيئة تسجيل موقف وتشبثٌ بالحياة رغم الألم.

 

ولد الجاز من التام تام الإفريقي، حيث اختلطت معاناة الأجيال الإفريقية التي عانت من العنصرية بالموسيقى الكلاسيكية التي كانت حكرًا على الإقطاعيين، ولا أحد يدري كيف استطاعت هذه الخلطة أن تنتج كل هذا السحر، وكل تلك الحرائق الإيقاعية التي شبت في المقاهي وانبرى فنانوها الأوائل يحصدون اهتمام الناس وعشقهم، حتى تحول الجاز من نمط موسيقي وليد، إلى ثورة فنية وحقوقية ومجتمعية، غزت شيئا فشيئا باقي الولايات الأمريكية، ومن ثم حجزت تذكرتها للعالم.

 

 

عندما غادر الجاز موطنه الأصلي ومسقط رأسه، لم يبق كما هو، بل كان عرضة لسلسلة من التغيرات والتحولات، على مستوى الألحان والكلمات والآلات، وعلى مستوى طبيعة الموسيقى نفسها؛ فلئن كان الجاز قد بدأ فناً إيقاعياً ارتجالياً، يدعو الأقدام للرقص، ولا شيء سوى الرقص،  فإنه تحول تدريجياً إلى فن واعٍ، مكتوبٍ بالنوتة الموسيقية، ذي كلمات شاعرية، وموسيقى تُعزف في المحافل الأوبرالية بواسطة أوركسترا محترفة؛ ولاحقا لبس الجاز لبوسا خاصا بكل منطقة غزاها؛ فالجاز الأمريكي الأصلي يختلف عن الجاز الممارس في الجارة اللاتينية، وعن الجاز الشرقي، فلكل مجتمع طريقته في عزف وتلحين موسيقى الجاز، مع الاحتفاظ بروحها، تلك الروح الثائرة، والمنحازة للإيقاع، على حساب أي عنصرٍ آخر.

 

لم تكن المنطقة العربية بمعزل عن ثورة الجاز، بل يمكن القول إنه تمت دوزنة موسيقى الجاز ووسمها بالطابع العربي خصوصًا في لبنان والعراق ومصر وباقي دول الشرق الأوسط إضافة إلى منطقة المغرب العربي.. ولئن كان الطبل والساكسفون والتشيللو والبيانو والترومبون هي الآلات الموسيقية الأكثر استخدامًا في الجاز، فإن الموسيقى العربية استطاعات أن تؤاخي العود مثلا كآلة موسيقية عربية مع آلات الجاز التقليدية؛ كما مرت بلباقة حضور القانون، أب الموسيقى الشرقية أحياناً بدل البيانو.

المدونات المتعلقة

For better web experience, please use the website in portrait mode