تأمل فنّى: عندما غَلب سكونُ نافذةٍ في طنجة وحشيّة هنري ماتيس

 

 

 

'لوحة زيتية على قماش رسمها هنري ماتيس، نافذة في طنجة عام 1912 والموجودة الآن في متحف

'بوشكين للفنون الجميلة ، موسكو

 

 

 

عند ذكر اسم الفنان هنري ماتيس، سرعان ما يتبادر إلى أذهاننا أنّه رسام ونحات. امتازت أعماله بالجرأة ذات الطابع الوحشيّ، الناجمة عن اختياراته اللونيّة الصارخة، وابتكاراته الفنيّة المتمثلة بضربات الفرشاة المعبّرة، ونمط الزخرفة والمساحات اللونيّة، حتى أنها اعتبرت منُافِسة للفنان بابلو بيكاسو. وهذا ما عُرف به بوصفه أهم وأشهر رواد الحركة الفرنسيّة الوحشيّة، كون أعماله خرجت عن مألوف الانطباعيّة وما بعد الانطباعيّة. كما وأن ماتيس كان له نظرة مسبقة ثاقبة في مجال الفنون، ترك من خلالها بصمة في التطورات الثوريّة في الفنون البصريّة طوال عقود القرن العشرين، والانتقالات الجوهريّة في الرسم والنحت آنذاك.

الشتاء من عام ١٩١٢، سافر ماتيس إلى المملكة المغربيّة، تحديدًا مدينة طنجة الواقعة على ساحلَي المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط. رأى فيها سحرًا خاصًّا يفوق خيال أيّ فنان يزور المدينة، مما لها من طابع حضاريّ عمرانيّ مختلف، وجمال الألوان في تراكيزها المفعمة بالحياة، والزخارف الإسلاميّة، بالإضافة إلى بعض الأصالة للرموز والزخارف المتمثلة في أسقف المنازل المغربيّة، ممتدة إلى خارج طُرُقاتِها. كما تمعّن برحابة مساحاتها الخضراء حتى أقصى الصحاري -الملهمة- وصولًا لسواحلها البحريّة الخلابة. حينها لم يكن يعلم ماتيس أنّه سيتأثر بتجلّيات هذا البلد وانعكاسه على بعض أعماله التي لا يمكن أن تمرّ دون وضع لمسات ما أسفرت عنه رحلته.

سوء الطقس أرغم ماتيس على المكوث بفندق Villa de France تاركًا له بابًا للتأمل عبر نافذة غرفته، مُبحرًا في سحر طنجة، مخلفةً حالة من السكون الجم. مما نتج عنه تجربة فريدة للوحة فنيّة بات واضحًا فيها تأثره بهذه المدينة، ولم يخش ماتيس ذو النظرة المختلفة بالفنّ أن يخوضها مستخدمًا اللون الأزرق بدرجاته المتفاوتة في لوحته، ليفرق بين السماء والبحر، وبين النافذة والستارة، وما هي إلا دلالة على شعورهِ بالراحة وإعجابه بالمنظر. وحدد المباني باللون الأبيض مع القرميد الأخضر لإظهار الهدوء والسكينة المحيطة بسكانها. ويستشف ها هُنا، وكأن ماتيس صارع وحشيّة أعماله بسكون خلاب أججتها مدينة طنجة في أعماقه من مجرد نافذة. نجده رسم كل ما نظرت إليه عيناه، من: البحر، والمنارة، والطريق، والرجل، والحمارين، بشكل بسيط متفرّد، أضاف قيمة ثريّة وبساطة مرئيّة، وهذا الاختلاف المركّب ميّز مذاق لوحته. أيضًا، وضع التفاصيل البسيطة مثل المزهريّتين الممتلئتين بالزهور المتفتحة على الشرفة، دلالة على نشر الجاذبيّة والجمال أمام بساطة الحياة التي يراها أمامه، ليكمل المشهد الجليل الذي أضاف له هدوءًا وسحرًا مغايرًا عن واقع الشتاء. وهذه دلالة على عمق السحر العربيّ ومكانته التي فاقت الطابع الفرنسيّ لماتيس. حيث إنّه احتفظ بالطابع اللونيّ للمدينة، ولم يضِف شيئًا آخر عليه من الجانب الفرنسيّ، مما يظهر التأثر الفكريّ بسحر جاذبيّة المغرب العربيّ من خلال زيارته هذه.

لوحة ماتيس (نافذة في طنجة ١٩١٢) المستوحاة من إطلالة النافذة لمدينة طنجة جعلت نظرة المتلقي للعمل مدهشة، ساكنة، مريحة، وثرية بالاعتزاز الحضاريّ العربيّ. حيث غلبت حضارة المدينة وتفاصيلها على أشهر رواد المدرسة الوحشيّة، ورسم لوحة طنجة المختلفة عن طابعه الفنيّ. تاركًا لوحة ذات قيمة فنيّة تجعلنا نقف متأمّلين حولنا مدى جمال محيطنا التراثيّ والحضاريّ. متسائلين: كيف لأبسط تفاصيل حياتنا أن يكون لها أثر عميق في نفس زائرها قد تغير شعوره وتقوده إلى تبني شعور مختلف؟. يقول ماتيس عن اللون، "يحصل المرء على طاقة يبدو أنّها تنبع من السحر" وهذا ما حصل بالفعل بشتاء طنجة ١٩١٢عام. حيث تتجلى اللمسة المغربيّة ليغلب سكونه وحشيّته.

 

 

 

تكتبه: د. سارة الوشمي ( @s.alwashmi )

دكتوراة بالفنون الجميلة مدربة ومستشارة في الفنون

 

 

أخبار ذات صلة

For better web experience, please use the website in portrait mode