بابا طاهر: الشاعر الأسمر المهيب
في منتصف عام 1914 كانت المملكة العربيّة السعوديّة على موعد مع حدث لن يتكرر، إذ أنجبت لها حارة الفلق بمكة المكرمة ماسةً سمراء سيكون لها شأن عظيم: طاهر عبدالرحمن الزمخشري، شاعر وكاتب سعوديّ معاصر، وأحد أبرز الأدباء والمبدعين، ينتمي لجيل التأسيس الأول الذي أرسى حراكا إبداعيًّا في السعوديّة، إنّه "كومة من الفحم سوداء، تلبس ثيابًا بيضاء، وتقول شعرًا على شكل قصائد حمراء وخضراء وصفراء"، كما قال عن نفسه.
في بداية طفولته انتقلت أسرته إلى حارّة القرارة قرب المحكمة الشرعيّة في مكة، حيث عمل والده حارسًا للمحكمة، وكان طاهر يرافق والده كل صباح إلى عمله، وتأثر بعدد من شيوخ مكة المكرمة، من بينهم الشيخ ابن بلهيد، والشيخ ابن شلهوب، والشيخ أحمد بن إبراهيم الغزاوي الذي كان رئيسًا للمحكمة الشرعيّة في مكة، لعب هؤلاء الشيوخ دورًا كبيرًا في تكوين شخصية طاهر الأدبيّة والفكريّة و الدينيّة، كان ذلك قبل أن يلتحق رسميًّا بكتّاب الشيخ عبد المعطي نوري في حارة الباب؛ وبعد ذلك بمدرسة الفلاح إثر تأسيسها مباشرة.
مالت روح طاهر إلى الأدب والشعر منذ طفولته، متخذًا الشاعر والفقيه والشيخ أحمد إبراهيم الغزاويّ رئيس المحكمة الشرعيّة قدوة في الشعر والحياة، فضلًا عن القاضي الشيخ عرابي بن محمد بن صالح الذي كان يشجعه على المطالعة، التي فتحت أمامه مجالًا واسعًا للعلم والمعرفة. أظهر نبوغًا شعريًّا في الخامسة عشر من عمره، وهو بعدُ في الصف الدراسيّ السابع بمدرسة الفلاح، وكانت أولى محاولاته الشعريّة بالتشطير والتخميس؛ ثم شرع يقلد الرافعي في (أوراق الورد) فكتب مجموعة من الخواطر النفسيّة والعاطفيّة والوجدانيّة أطلق عليها (أوراق العيد)، كل ورقة منها تحاكي ورقة من أوراق الرافعي، كما عارض المتنبي وشوقي وغيرهما، وجمع كل هذه المعارضات في مجموعة تحت عنوان (من وحي الليل) وهو ديوان يضم عصارة تجاربه الشعرية الأولى.
تنوعت أغراض الشعر التي يغترف منها طاهر في مشروعه الشعريّ الغزير، فتناثرت قصائده بين الدينيّ، والوطنيّ، والاجتماعيّ، والرومانسيّ، والسياسيّ، وعرَّج على تأليف المسرحيات الشعريّة؛ ترجمت بعض قصائده من طرف اليونيسكو إلى اللغات الانجليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة، وكان من أوائل من كتب الشعر العموديّ في الصحافة السعوديّة.
بدأ شاعرنا رحلة العمل في سنٍّ مبكرة، في الثامنة عشر من عمره أصبح موظفًا، وتنقل بين عدة وظائف حكوميّة وغير حكوميّة ما بين 1349 و1389هـ؛ بداية بموظف مؤقت بلجنة إحصاء النفوس، ثم مدرس بدار الأيتام بالمدينة المنورة، التي أصبحت فيما بعد دار التربية الاجتماعيّة، وكاتب ومصحح بالمطبعة الأميريّة، المطبعة الحكوميّة وجريدة أم القرى، فسكرتير للمجلس الإداري بأمانة العاصمة بمكة المكرمة وغيرها، إلى أن عمل مذيعًا وكاتبًا ومعدًّا ومراقبًا بالإذاعة السعوديّة، التي كان أحد مؤسسيها، وقدم من خلالها أكثر من 18 برنامجًا، من أهمها وأشهرها برنامج (ركن الأطفال) الذي أخذ منه لقبه المشهور "بابا طاهر"، و"أحلام الربيع"، وبرنامج الأسرة، ومع الأصيل، ويوم جديد، وشعر وموسيقى وغيرها، وقد عُرف عنه اهتمامه بأدب الطفل، حيث أصدر أول مجلة ملوّنة متخصصة للطفل هي (مجلة الروضة) لم تدم طويلًا 1959 - 1960م، ثم كان أول من أسس فرقة موسيقيّة في المملكة السعوديّة ساهمت في تقديم الأناشيد الوطنية في الإذاعة.
في سنة 1946 أصدر طاهر ديوان "أحلام الربيع"، ثم "أنفاس الربيع" وعلى وقع "أصداء الرابية" على مسامعه و"أغاريد الصحراء" و"على الضفاف" عاش طاهر يعزف "ألحان مغترب" وينتظر "عودة الغريب" وباقة من الأعمال الأدبية الرائعة التي أهدانا إياها، فقد غمرنا شعرًا وقصصًا و أدبًا قلّ نظيره؛ كما نال العديد من الجوائز والأوسمة، وكان أول شاعر سعوديّ يكرم خارج المملكة، حيث منحته الحكومة التونسيّة في عهد الرئيس الحبيب بورقيبه وسامين، الأول وسام الاستقلال من الدرجة الثالثة، ووسام الثقافة التونسية في عام 1974 وحصل على جائزة الدولة التقديرية للأدب عام 1985 من السعودية.
رحل طاهر زمخشري منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بعد أن خلّدَ اسمه في المعجم الشعريّ السعوديّ والعربيّ، وترك إرثًا موسيقيًّا يزيد على مائتي أغنية ونشيد؛ غنى له كبار المطربين السعوديّين مثل: طلال مداح، ومحمد عبده، وعبدالمجيد عبدالله، وابتسام لطفي، بالاضافة لفنانات عربيّات مثل: هناء الصافي، وعايده بوخريص، رحل بابا طاهر عن عالمنا بجسده النحيل الأسمر، تاركًا روحه ترفرف بيننا، وتوزع الجمال على كل متذوقيه.